كان من الممكن أن تفقد كرة القدم موهبة أحد أهم لاعبيها التاريخيين، إن لم يكن الأهم بينهم، إذا اعتمد نائب رئيس الاتحاد البرازيلي توصية رجل يدعى جواو كارفالايس باستبعاد إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو، والذي عرف لاحقًا باسم “بيليه”، من الرحلة المتجهة من العاصمة البرازيلية إلى نظيرتها السويدية للعب منافسات كأس العالم 1958، وبالرغم من أن توصيته قد تكون محل اختلاف لكنها لا تغير حقيقة كونه أول طبيب نفسي في كرة القدم، ومساهمته في النجمة العالمية الأولى التي زينت صدر القميص الأصفر.
في صيف عام 1958، خطف فتى أكمل من عمره 17 ربيعًا أنظار عالم كرة القدم أجمع. 6 أهداف في 4 مباريات بكأس العالم، “هاتريك” في نصف النهائي، هدفين آخرين في المباراة النهائية ليمنح البرازيل كأسًا كانت تتوق أن يدخل خزائنها.
وصل بيليه إلى السويد شابًا لا يعرفه أحد، قطع وعدًا لأبيه قبل 8 سنوات حينما رآه يبكي بعد خسارة منتخب بلاده من الأوروغواي، بأن دموع حسرته ستتحوّل إلى أخرى تتساقط من الفرحة حينما يجلب نجله كأس العالم للبلاد، أوفى الأسمر النحيل بكلمته وفاز بكأس هي الأولى له من ثلاثة، وغادر مطار ستوكهولم بعد أن أجبر الجميع على إدراك أنهم أمام معجزة سيكون مصيرها الخلود في ذاكرة اللعبة.
شخص واحد كان يعارض مشاركة بيليه في المونديال، هو الطبيب النفسي للمنتخب جواو كارفالايس، بسبب نتائج لاعب سانتوس حينها في اختبارات ما قبل البطولة.
علّق بيليه عن أساليب الطبيب قائلًا: كانت متطورة عن عصرها، أو سخيفة، أو كليهما.
وبغض النظر عن نصيحته الخاطئة ذلك الحين، لكن كارفالايس أدخل الطب النفسي إلى كرة القدم من بوابة أميركا الجنوبية قبل 30 عامًا من بدايته في أوروبا، وكانت حاجة المنتخب البرازيلي الماسة لتجاوز “كارثة ماراكانا” والتي يعتبرها الكثيرون الصدمة الأكبر في كرة القدم، والخروج الهزيل من المجر في النسخة التالية، هي السبب الأساسي في تسليط الأضواء حينها على أهمية ارتباط الطب النفسي باللعبة.
كان كارفالايس يعمل في نادي ساوباولو عام 1957، بعد أن ترك وظيفته في تدريب حكام كرة القدم، وجذبت فكرة إنشاء “معمل نفسي” للفريق الأول مسؤولي المنتخب البرازيلي، لم تتكرر تلك الفكرة مرة أخرى حتى أواخر الثمانينات في ميلان الإيطالي على يد الطبيب برونو ديميكيليس.
تكوّن مختبر كارفالايس في مقر الاتحاد البرازيلي من 10 غرف، يجري بها اختبارات نفسية لتأهيل الحكام قبل بداية رحلتهم الاحترافية في إدارة المباريات، وضع الطبيب معايير محددة لنجاح ورسوب الحكام في الاختبارات، على سبيل المثال إذا سجل حكام نتيجة أقل من 50 جزءاً من الثانية خلال اختبارات رد الفعل، فلن تُمنح لهم الرخصة الاحترافية لمزاولة مهنتهم.
وامتلك كارفالايس وظيفة مسائية أخرى كمعلّق على مباريات الملاكمة وصحافي يتابع أخبار تلك الرياضة.
من تدريب الحكام إلى تولي مسؤولية الفرق، كان لكارفالايس دور فعال مع ساوباولو بعد فوزه بالدوري المحلي في المدينة، عقب غياب طال لـ 4 سنوات، تم الإشادة به واعتباره أحد أسرار البطولة، وقال مدير النادي حينذاك مانويل دي ألميدا إن استبدال لاعب الوسط أديمار بزميله صانع الألعاب سارارا، الذي تألق بعد ذلك في مباراة صعبة أمام كورينثيانز، كان بسبب مخاوف كارفالايس بشأن حالة أديمار الذهنية والنفسية.
تلقى الطبيب عرضًا من الرجل المكلف بالتخطيط لكأس العالم 1958 ونائب رئيس الاتحاد البرازيلي ماتشادو دي كارفاليو وطلب منه الانضمام للجنة الفنية بالمنتخب، لم يكن العرض قابلًا للرفض سواء من الناحيتين المادية أو الوطنية، فقبل الأول به.
بدأ كارفالايس تطبيق الأساليب التي عمل بها مع ساو باولو في المنتخب، منها اختبار كان يُطلق عليه “جيش ألفا” وهو تعديل لبرنامج أميركي مصمم لتقييم القدرة الفكرية لمجندي الحرب العالمية الأولى، تبلغ مدته 50 دقيقة، ويهدف إلى قياس معدلات ذكاء اللاعبين من خلال قدراتهم الحسابية ومفردات الكلمات لديهم.
طلب من اللاعبين الذين لم يحققوا النتائج المثالية في الاختبار الأول، إجراء “جيش بيتا” والذي يتضمن تدريبات مثل إكمال الصور نصف المرسومة وتتبع المسارات من خلال متاهات ثنائية الأبعاد.
كان يجب على كارفالايس تقديم نتائج اختباراته إلى رئيس اللجنة الفنية، لكنه أرسل رسالة إلى ماتشادو زاعمًا أنها سُرقت من حقيبته وسُرّبت لوسائل الإعلام.
أظهرت التسريبات إلى أن كارفالايس لم يكن يحبذ سفر الجناح التاريخي غارينشا إلى السويد، لأن نتائج اختباراته كانت ضعيفة، ما أثار عاصفة من الغضب ضده في وسائل الإعلام وبين الجماهير، لكن سرعان ما خفتت حدّتها بعد اختيار غارينشا ضمن القائمة المسافرة لخوض غمار المنافسة.
دائمًا ما كانت تواجه كارفالايس مشاكل بسبب اختباراته وأساليبه التي يستخدمها، فبعد وصول الفريق إلى السويد، بدأ الطبيب في تطبيق أسلوب يمكن اختصاره “MKP” لتحليل الخصائص الفردية، كان يستند إلى إعطاء اللاعبين ورقة بيضاء ليرسموا أول ما يتبادر إلى ذهنهم، وهو ما يساعده على معرفة مزاج اللاعبين قبل البطولة.
كتب بيليه في سيرته الذاتية عن تلك الأساليب وقال: أجرى عالم نفس الفريق اختبارات على جميع اللاعبين ليحدد ما إذا كان يجب اختيارنا أم لا، وقرر أنه لا يجب اختياري لأنني طفولي وأفتقد للروح القتالية على حد وصفه، كما وجّه باستبعاد غارينشا لأنه ليس مسؤولًا بما فيه الكفاية.
وتابع: لحسن الحظ فيسنتي فيولا مدرب الفريق يتبع حدسه، وقال له: ربما تكون على صواب، لكنني واثق من أنك لا تفقه أي شيء عن كرة القدم، إذا كانت ركبة بيليه بخير ولا يعاني من إصابة فيها، سيلعب.
اختلف بعض اللاعبين في موقفهم من كارفالايس، إذ أشاد حارس المرمى غيلمار بأساليبه: أدركنا بعد البطولة أنه منحنا الأفكار التي ساعدتنا على تحسين أدائنا، وقال المدافع نيلسون سانتوس إن الفريق تعلم “الدخول إلى أرضية الملعب مبتسمًا وواثقًا”.
الإشادة الدولية والاهتمام العالمي الذي حظي به كارفالايس بعد فوز البرازيل بأول كأس عالم في تاريخها، خففت من شعوره بالإحباط بسبب عدم اعتماد المدرب على نصائحه بشكل كامل، والانتقادات التي تعرض لها على الملأ من دي كارفاليو بعد تسريب نتائج اختباراته.
فارق أول طبيب نفسي في كرة القدم الحياة عام 1976 عن عمر يناهز 58 عامًا وبعد عامين فقط من تقاعده، عاد لخدمة النادي الذي صنع اسمه ساو باولو بعد بطولة 1958 وترك دوره مع المنتخب الوطني.
وتجدر الإشارة إلى أن الأميركي كولمان غريفيث الذي توفي عام 1966 هو أول عالم نفس رياضي، لكنه حصر أدواره بشكل كبير على كرة القدم الأميركية، فيما يعد كارفالايس هو مؤسس علم النفس في كرة القدم.
المصدر
الكاتب:دبي – حسين لطفي
الموقع : www.alarabiya.net
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2022-11-05 18:20:43
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي