مع الأخذ بالاعتبار أن هناك عقولاً مغلقة أو مسطّحة لا تريد أن ترى في الرد مجرد رد، بل يراه بعضها مسرحية، وبعضها الآخر مجرد حفظ ماء الوجه، وبعض ثالث فشلاً ذريعاً، والحجة إما عدم وقوع خسائر بشريّة أو احتراق منشآت مدنية حيوية ظاهرة، ونجاح التصدي الأمريكي الإسرائيلي للصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية بإسقاط نسبة كبيرة منها.
ولهؤلاء الجواب بسيط، هذه المسرحية والفشل وحفظ ماء الوجه يقول: إن إيران تظهر جاهزيتها لتحمل مخاطر الذهاب إلى حرب تأكيد قدرتها الردعية، فهل يمكن أن نتمنى عليكم إقناع أصدقائكم الأمريكيين، وربما الإسرائيليين، أن يختاروا مسرحية مثلها وفشلاً مثله وحفظ ماء وجه من صنفه لإظهار قدرة ردعهم بتحمل مخاطر الذهاب إلى حرب، بعرض ناري مشابه في الأجواء الإيرانية.
الحل بسيط وإن كانوا قادرين عليه فليفعلوا، وإلا اخرسوا بكل احترام وأدب وتحفظ!
لندخل في الموضوع، فما فعلته إيران هو أنها حركت 331 جسماً طائراً متفجراً في نسق مبرمج ومنظم يغطي جغرافية فلسطين المحتلة من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، عبر توجيه هذه الأجسام الطائرة المتفجرة نحو أهداف عسكرية لجيش الاحتلال، بعدد الأجسام الطائرة وعلى كل مساحة فلسطين.
واختارت إيران لهذه المهمة أجيالًا هي الأقل تطورا في ترسانتها، سواء لجهة سرعة بلوغ الهدف والقدرة على المناورة والتمويه بوجه الرادارات وشبكات الدفاع الجوي ومحاولات الإسقاط، بحيث كان الوقت الفاصل بين انطلاق الطائرات المسيرة وبلوغها منطقة الهدف ترافقها الصواريخ التي أطلقت على عدة مراحل بما يتناسب مع سرعاتها المختلفة، كافياً كإنذار يهدف إلى إتاحة استنفار الجهات المنخرطة في حلف عسكري لمواجهة الرد، لكن التصدي المقصود ليس إطلاق صواريخ الطائرات الـ أف 35 ومنظومات الدفاع الجوي المختلفة من منظومة ثاد الأمريكية المتطورة إلى المقلاع الإسرائيلي وحيتس والقبة الحديدية، بل ما جاءت تفعله مدمرتان أمريكيتان متخصصتان بالحرب الإلكترونية جرى استقدامهما خصيصاً واحدة إلى البحر المتوسط وواحدة إلى منطقة الأسطول الخامس في البحرين في مياه الخليج الفارسي، بهدف الدخول على شبكة التحكم بإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة لمنع إطلاقها أو حرفها عن مسارها أو السيطرة عليها وإسقاطها سليمة إذا أمكن، كما سبق وفعلت إيران وقوى المقاومة مع طائرات مسيرة أمريكية وإسرائيلية، لكن النتيجة كانت صفراً مكعباً، فمن أصل 331 جسماً طائراً متفجراً لم تنجح منظومة الحرب الإلكترونية الأمريكية لتعطيل أو حرف مسار أو السيطرة على جسم واحد.
بين الروايات الإسرائيلية الرسمية والروايات المنشورة في الإعلام الإسرائيلي، وصل بين 7 و30 صاروخا إيرانيا إلى أهداف في داخل الكيان، ليس بينها هدف مدني واحد أو منشأة مدنية واحدة، وطالما نتحدث عن الصواريخ الواصلة فلا حاجة للقول إن الأمر لا علاقة له بـ الأمريكي والإسرائيلي، بل بقرار إيران وما أرادت إظهاره من تفوق أخلاقي لنمط حرب المقاومة، على نمط حرب أمريكا على العراق وأفغانستان وفي ليبيا واليمن وسورية، ونمط حرب “إسرائيل” بنسختها الحديثة التي ضج بها العالم لما امتلأت به من أنواع جرائم الحرب وصولاً إلى جريمة الإبادة.
والرسالة الإيرانية واضحة، لو شئنا أن نقتل عائلاتكم وندمر مساكنكم وكهرباءكم ومستشفياتكم، كما فعلت حكومتكم بغزة لفعلنا.
ويعرف الخبراء من الإسرائيليين كما قالوا إن استخدام إيران للأجيال الأقل تطورا من طائراتها المسيَرة وصواريخها، يقول أيضاً لو أردنا مفاجأتكم، بصواريخ تصل خلال دقائق تعجزون عن التصدي لها لفعلنا، أو بطائرات مسيرة لا تلاحظها راداراتكم ولا تنجح صواريخكم بالتصدي لها لفعلنا.
وإن كنا لم نفعل، فهذا لا يجب أن يعني أننا في مرة لاحقة لن نفعل، فالأمر وقف على حسن تصرفكم مع حكومتكم لشل يدها عن العبث الأحمق، وحسن تصرفها بتلقي الدرس بعد تصرفها الأخرق.
عملياً ما فعلته إيران هو أنها هزأت بحكومة الاحتلال وخرافة اكتفائها الذاتي عسكرياً، حيث سقطت كل الأسماء اللامعة لمنظوماتها، وظهرت عارية من وسائط التعامل الجدي مع هذا المستوى الابتدائي من الرد الإيراني، الذي كان ممكناً أن يتضمن عشرات أضعاف الكمية المرسلة، لكن من الطائرات المسيرة السريعة والتي تحمل رؤوساً حربية ثقيلة والقادرة على المناورة، والصواريخ الدقيقة والفرط صوتية.
وما دامت منظومات الاحتلال كلها عاجزة عن التعامل مع هذه الوجبة من الرد الإيراني فكيف كانت ستتعامل مع رد مختلف من العيار الثقيل؟ وعملياً ما فعلته إيران أنها جاءت بأمريكا وفرنسا وبريطانيا إلى المنطقة ودفعت دولاً عربية للكشف عن حجم خضوعها للاستخدام الأمريكي لحساب “إسرائيل”، بحيث عرف الإسرائيليون أنهم فقدوا دور القوة.
المهيمنة المهابة الجانب، وأنهم باتوا مجرد محمية أمريكية. والأهم أن أمريكا لم تعُد قادرة على التنصل من مسؤوليتها عن جرائم الكيان وجيش الاحتلال، ما دامت هي مَن يمول ومَن يحمي.
ما يعني أنه إذا ردت حكومة بنيامين نتنياهو على الرد فإن إيران تعتبر أن أمريكا هي التي ترد، وسوف يكون العقاب المقبل على القواعد الأمريكية في المنطقة، وان لم ترد حكومة نتنياهو فهذا يعني أن أمريكا تلقت الدرس وفهمت أن عليها أن تقود مسار إنهاء الحرب على غزة بشروط المقاومة، لأنه الطريق الوحيد لاستعادة الاستقرار إلى المنطقة، سواء في تداعيات هذه المواجهة، أو في جبهات العراق ولبنان واليمن.
وصلت الرسائل، وأثبتت إيران أنها استبدلت استراتيجية الذبح بالقطنة باستراتيجية حرب الأكباد، وفق معادلتين، الأولى هي: يملك الردع من يجرؤ على المخاطرة بالذهاب إلى الحرب، فها نحن نفعل لكنكم لا تجرؤون على المثل. والثانية هي: قادرون على الحرب لكننا لا نريدها لكنكم تريدونها وغير قادرين عليها.
* رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية/ناصر قنديل
مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :www.alalam.ir بتاريخ:2024-04-18 01:04:22