الكرامة ليست قيمة مطلقة في خطاب الشهيد الشيخ نمر باقر النمر، بل هي مرتبطة بمعنى محدد، هو حفظ حقوق المواطنة والحرية والمساواة والعدالة. هي كرامة دستورية، إذ الدستور هو من يحفظ كرامة المواطنين، من هنا فالحديث عن الشيخ النمر ليس حديثاً عن نضال مطلق مفتوح. أو لنقل استشهاد الشيخ النمر ليس انغماساً عدمياً في المطلق، بل هو استشهاد في حدود ما أراد أن تكون حياته شاهدة عليه.
أحال الشيخ الشهيد النمر، معاني الكرامة إلى خطاب نضالي حقوقي، وقدم نفسه تجسيداً لهذا الخطاب، وجعلها أعلى مبدأ دستوري لحياته، التي جعلها هي الأخرى مطابقة تماماً لمفهوم الكرامة، فجعل جذع جسده شجرتها، وكلماته جذورها، ورأسه كلّ غصونها، لم يملك شيئاً منه ليتصرف فيه، فقد تملكته الكرامة بكلها، لم يسلبها أحد منه فقد ظلت معه حتى آخر نفس له وهو يصاعد إلى السماء، ولم يتنازل بها لأحد على الرغم من كثرة الرسائل الملحة عليه.
تقول لائحة الدعوى ضد الشيخ النمر”فقد ثبت لدينا إدانة المدعى عليه نمر بن باقر ال نمر بإعلانه عدم السمع والطاعة لولي أمر المسلمين في هذه البلاد وعدم مبايعته له ودعوته وتحريض العامة على ذلك ومطالبته”. لقد كسر خطاب الشيخ الشهيد النمر فكرة الطاعة لولي الأمر، منذ بدأ خطابه عصيانه المدني السلمي، وفي مرافعته أمام جلاديه، وأتته الفرصة ليكسر حجج الطاعة وتأصيلاتها الشرعية الهشة التي تخفي تحتها تسلطاً وخضوعاً وإذلالاً لشخص الحاكم المستبد.
منطق الشهيد النمر “لا سمع ولا طاعة لمن يسلب حريتي ويسلب أمني” كما سجله المدعي، وكما سجلته مرافعته حين سئل عن طاعة ولي الأمر، فردً قائلاً إن “جوابي بعدم التزامي وعدم طاعتي لأي شيء يخالف عقيدتي”.
وعقيدته تقول “وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وحجور طابت وأرحام طهرت أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام”. الطاعة التي تسلبك كرامتك دونها مصرعك، هكذا وضع الشيهد النمر معادلة الكرامة والطاعة، فكان مصرعه على مذبح كرامته. لقد كسر فكرة الطاعة بالكرامة، والادعاء على الشيخ النمر قائم في أساسه ومقتضاه على: طاعة ولي الأمر، والبيعة له، وتجريم الخروج عليه. والمرافعة قائمة على تفكيك أركان خطاب هذه الدعوى.
يذكُر المدعي العام التابع للنظام السعودي في دعواه على الشيخ الشهيد “نقضه البيعة المنعقدة له في ذمته” فيردً الشهيد النمر “هذه الدعوة سالبة بانتفاء موضوعها؛ لأنني لم أبايع من الأصل ولم تتحقق مني بيعة حتى يقال إنني نقضت البيعة؛ وذلك لأنني شيعي، وعقيدة الشيعة في البيعة أن مآلها وحقيقتها أنها بيعة لله سبحانه وتعالى .. ولذا لا يجوز لأحد أن يطلب البيعة له أو البيعة لأحد آخر ما لم يجعل الله ذلك له، فالبيعة جعل إلهي وليس للمخلوق نصيب في تحديد المجعولة له”. وبشموخ لم يخذله طوال مرافعته يقول الشيخ النمر، إمعاناً في كسر الطاعة وإعلاء الكرامة: لا أعتقد أن حاكم هذه البلاد ولي أمر المسلمين فيها، وأنا لم أعلن ذلك على الملأ العام. نعم هو والٍ وليس ولي الأمر، وليس له الولاية عليَ، وهناك فرق بين الوالي والولي.
ويفصل ذلك بأزيز كلماته: “نعم قلت وأقول: لا نؤيد آل سعود، ولماذا نؤيدهم؟ على قتل أبنائنا أم على اعتقال شبابنا أم على الظلم والجور الواقع من قبلهم علينا، فنحن لم ننتخبهم ولم نخترهم حكاماً علينا، ولم يجعلهم الله كذلك حتى نؤيدهم، وإنما حكمونا بحكم الغلبة”.
النقيض السعودي الكرامة تعني الإنسان غاية في ذاته، وليس وسيلة لولي الأمر كما ثبّتت ذلك الوهابية حديثاً مستثمرة تراثها السلفي. الوهابية لم تكن مذهباً أو دعوة مكتملة ثم تبنتها دولة بل هي تمّ تفصيلها على مقاس سلطة توسع آل سعود، واكتملت بهم، صحيح أن البذرة الأولى كانت خارج حقل سيف محمد بن سعود، لكن النبتة والشجرة كانت تحت ظلال سيفه، وفكرة الطاعة جرى تطبيعها بسيف الفتح الذي سلطه آل سعود على القبائل لتخضع لحكمهم وبالرسائل التي كان يوجهها محمد بن عبدالوهاب للقبائل وفقهائها وقضاتها ويدعوهم فيها للطاعة والامتثال والإسلام، من هنا فالوهابية ديانة حرب، ضد كل من لا يتماثل معها أي ضد من لا يخضع لها ويطيعها.
في الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة الطاعة أولاً والكرامة مرهونة بالطاعة أو لنقل مسلوبة بالطاعة، وهذا ما كان يرمي إليه الشيخ الشهيد النمر حين قال في مرافعته “الدولة ليست أهم من كرامتي”، أي أن الدولة السعودية تجعل طاعة ولي الأمر سحقاً للكرامة، وأنا لن أقبل أن تسحق كرامتي فهي أهم من هذه الدولة التي لا تعترف بمواطنيها ولا بكرامتهم، هي دولة بلا مبدأ أخلاقي لأنها تتعامل مع الإنسان على أنه وسيلة لـ (ولي الأمر) وكرامته تحت اعتبار أوامر ولي الأمر، ليست لدى هذه الدولة فلسفة خارج الطاعة والكرامة في الفلسفة “مبدأ أخلاقيّ يُقرِّر أنّ الإنسان ينبغي أن يعامل على أنّه غاية في ذاته لا وسيلة، وكرامته من حيث هو إنسان فوق كلِّ اعتبار”.
لقد جعل الخطاب الوهابي الدولة في طاعة ولي الأمر، ليس هناك شعب ولا رعية، هناك مطيعون وهناك ولي أمر مفترض الطاعة، حتى صار ولي الأمر طاغوتاً، يُطيعه الدين وليس يطيع الدين وتخدم الفتاوى أمره، ويستخدم لقب (خادم الحرمين) ستاراً يخفي تحته حقيقة أنه المخدوم لا الخادم، لقد فقد الدين وظيفته في أن يكون رادعاً لجبروته، وفقدت الدولة هيبتها في أن تكون نظاماً يخضع له الحاكم، وفقد المواطنون كرامتهم لأنهم غدوا في طاعة ولي الأمر لا في طاعة الدولة.
المصدر: مرآة الجزيرة
المصدر
الكاتب:
الموقع : www.alalam.ir
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2023-01-01 10:01:16
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي