النار تغيّب الأسماء أيضاً – قناة العالم الاخبارية

تشير أرقام الشهداء في غزة منذ بداية الإبادة الجديدة-كونها ليست الأولى- إلى ٤٣ ٤٦٩ شهيد وما لا يقلّ عن ٨٥ ٥٢٣ جريح.

في لبنان ، حتى هذه اللحظة تتحدث المصادر عن ٢٧١٠ شهيد و ١٢ ٥٩٢ جريح.

كم وجها يعرف هذا العالم عنهم؟ أم أنّ وجوهنا وأسماءنا يحرقها رماد الحرب ويرميها أرقاما في وجه العالم الذي يستلذ بمسرحية الدماء الممتدة منذ ٧٥ عاما؟

أعرف منهم وجهين، اسمين..

أحفظهما في ذاكرتي دون دم و جراح وشظايا، أذكرهما قبل أن تقتلهما آلة الإبادة الإسرائيلية الأميركية-العربية أيضاً.

أكتب عن ايمان وغزل

نتشارك أنا وغزل الدم نفسه، العائلة، جدنا وجدتنا، وأرضنا ..

أما ايمان .. فكانت تشارك الأرض القضية و الخير، حتى قدمت لها في النهاية دمها.

في الأول من تشرين الثاني ،استشهدت ايمان وطفلتها غزل ابنة الخمس سنوات على كرسيها المتحرك بصاروخ إسرائيلي أميركي المنشأ عربيّ النفَس..

استشهدتا مع عدد من أفراد العائلة الواسعة أثناء وجودهم في بيتهم القابع في البقاع الشمالي اللبناني.

نقل الخبر إعلاميا إلى العالم- المشاهد -الشريك في الجريمة كالتالي :”غارة إسرائيلية تسبب مجزرة آل أمهز في بلدة اللبوة في البقاع الشمالي اللبناني أدت إلى استشهاد كل أفراد العائلة “.

نقطة انتهى .

هكذا وبهذه البساطة يتلقى العالم خبر إنهاء الصهاينة لحياة الآلاف منا، يبث خبر موتنا على الشاشات وينتهي بسرعة فائقة، حتى قبل أن ترد حبة تراب على أجسادنا..هذا وإن وجدت كاملة.

إنها ليست حربنا الأولى، يقول الشاعر المصري دنقل ” إنه ليس ثأرك وحدك ،لكنه ثأر جيل فجيل “..

ما لا يستطيع الإسرائيلي فهمه أنه و بحماقته الفادحة يزرع ثأرا بين كل شريفٍ وبينه.. إنه ليس ثار فلسطين أو لبنان أو ايران أو أي بلد لا يقبل المذلة …إنه ثأر النفوس.

أكرر اسمها، ايمان..

كان لها بيتاً وعائلةً وأحلاماً.. أحبّت الحياة تماما كما لم تخف الموت حرّةً.

أثناء حملها أخبرهم الطبيب أن الجنين مريض ويستحسن أن تجهضه كي لا يثقلهم في الحياة هماًّ، لم تفكر ايمان وزوجها برهة واحدة وتمسكت بجنينها بل وأعطته اسما لحظة معرفتها للجنس، أسمتها غزل.

عندما ولدت ابنتها الوحيدة اعتنت بأبسط تفاصيل اللقاء الأول بينهما.. ربما كانت تعرف أن رحلتهما قصيرة على قدر مشقتها، علّقت اسم غزل على باب البيت، زرعت ورد اللافندر ليفوح من كل صوب، علقت كل الفساتين الملونة التي حلمت أن تلبسها غزل وهي تركض في حديقة الدار، نادت وصلّت لكل أولياء الله كي تأتي…

أتت غزل ملاكا خفيفا بعينين لوزيتين وشعر أسود كالليل، كانت هي ورد الدار لأبيها.

لم يحظ يوما والدها حسين باستقبال منها عندما كان يصل من العمل ، لكنها بعينيها على كرسيها كانت تركض نحوه تغمره من كل صوب..

كانت ايمان تخلق فرصا للفرح من جسد المستحيل، تماما كما يفعل الشهداء.

سافرت مع غزل إلى الإمام الحسين وكل إخوته وأبنائه …كنت أعرف أن روحها أقدس من أن تعاتبهم او تطلب منهم شيئا دنيويا لابنتها، كانت تذهب لتأنس بهم،لتشكرهم وتوصل إليهم قبول الهدية، غزل..

قبل استشهادها بيوم واحد، اتصلت بها.. زارت الامام الرضا بعينين ضاحكتين من البعيد..

حتما، أحبت الرضا وأحبها فالتقيا لقاء حقيقيا قريبا، أرادت هذه المرة أن تذهب غزل على قدميها نحو الإمام،بدل أن تتكبد مشقة الكرسي المتحرك.

كانت لها أحلاما أوسع من أفق الدخان فوق جثمانها، حقل لافندر أكبر، طفل آخر يسند غزل، حلمت بتأسيس مركز للحالات الخاصة لا تجرح فيه الأمهات اللواتي يأتين متمسكات بالأمل، كانت امرأة حالمة وآخر ما حلمت به كان النصر،أو ربما ..الشهادة.

على الرغم من كلّ ال “لا” الكثيرة التي كانت تصفعها الحياة في وجه ايمان، إلا أنها كانت تجد دائما طريقا لفرصة جديدة، في السنة الاخيرة من عمرها العزيز نوت أن تختص في الجامعة كي تساعد غزل، قالت أنه ولو كلفها الأمر ما كلف وأفاد ابنتها أن ترفع يدها أو قدمها وحدها، أو أن تتقدم حالتها خطوة واحدة فلن تتردد أن تفعله.

لم تستطع ايمان المضي في قرارها لأنه وبعد فترة وجيزة، تدهورت حالة غزل الصحية ودخلت في العناية المشددة..

أخبرتني قبل أسابيع من استشهادها خلال حديثنا أنها محبطة من البعض، الذين قد خذلوا المقاومة في أمسّ حاجتها للدعم، كانت تقول إن لاستشهاد السيد مسؤولية أكبر في الجبهة الداخلية.. لم تتوقف لحظة عن الايمان أن هذه الأرض لا تعطي سوى الانتصارات وتيقنت دائما أننا أهل حقّ وقضية.

حملت ايمان من اسمها الكثير،عاشت به، ربت غزل به، صبرت واستشهدت به أيضا.

لم تقبل يوما أن يختلف أخ مع أخيه أو أخته تحت أي ظرف أو سبب، كانت تراعي الجار واليتيم والمسكين..

أزهرت في كل الاماكن التي وضعها الله فيها، أكاد أجزم أن القبر كان ليزهر قبل وصولها إليه..

أحبت نهر العاصي الذي يعكس صورة الله فيه… قذفت فيه مرارا رسائل كتبتها بخط يدها، استجابها كلها بأن مدّ يده نحوها للأبد.

في بيتها،علقت وسط صور غزل الكثيرة صورة للسيد الشهيد على الجدار..

الآن،تمسك الصور ببعضها وتهاجر كما الطيور أسرابا إلى الله، تبقي الأسماء والضحكات والكثير من الهمس فوق شفاه الزمن.

تسند صورهم الجدران الآن، تسند البيت.. وصاحب البيت الذي بقي وحيدا يواسي الحسين.

هل تعني كل هذه المشقات لهذا العالم الساقط شيئاً؟ كيف ولماذا علينا أن نترجم للعالم بلغته كي يفهم ويصدق إبادات العدو الإسرائيلي لأحلامنا وبيوتنا وذكرياتنا؟ أليست دماءنا هذي التي تسطر فوق جدران الحقيقة؟ أليس هذا هو تاريخ العرب الحافل في الحياد المذل؟

أكتب من أرض طهران، قسراً.. تاركة لبنان – أرضي، أهلي، ذكرياتي، أصدقائي وكلّ أحلامي.. وفي يدي قلمي

لا أكتب للأيادي الملطخة بدماء إخوتي

أكتب لأن الغد آت والتاريخ سيسأل عن هذا الصمت الصارخ.. أكتب لأنه صوتي، في وجه الباطل..

أكتب عن الشهداء، بأسمائهم ووجوههم لا أرقامهم

أكتب عن كلّ شبر من أرضي التي لم تصالح، ولن تصالح حتى وهي”تقبض الجمر بيدها”.

مى المقهور

JOIN US AND FOLO

Telegram

Whatsapp channel

Nabd

Twitter

GOOGLE NEWS

tiktok

Facebook

مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :www.alalam.ir بتاريخ:2024-11-15 16:11:00
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

Exit mobile version