في ما كانت المسيرات المباركة تشقُ طريقها إلى أهدافها، وقبل أن تصل فلسطين المحتلة، كان الخبر المذهل يشق الدنيا كلها ويقسم أهلها إلى معسكرين: أهل الحق عُرفوا من لمحات العزة في أعينهم، وأهل الباطل كشفهم تلعثم حروفهم وهم يحاولون صياغة جملة واحدة حول النبأ، إلى أن جاءت التعليمة: سخفوا، قولوا أن مشهد العز هذا غير حقيقي، لا تتركوا الناس تصدق ما ترى، ولا تسمحوا بانكشاف العجز الإسرائيلي أمام كل العالم.. وكانت كلمة السر التي عنونت هذا السيل من الأوامر العاجلة: مسرحية.
منذ الإعلان عن الحدث العظيم وطوال اليوم التالي، لوحظ أن الإعلام الأميركي الموجه إلى الرأي العام الغربي، بدأ برسم مظلومية للصهاينة في عين شارعه؛ تتساءل CNN عن سبب هذا “الهجوم العدواني على إسرائيل”، ولا تربطه بأي حدث سابق، في محاولة للإيحاء أن إيران قررت فجأة القيام بـ”اعتداء” مفاجىء ضد “الإسرائيليين”. قد يبدو الأمر بالنسبة إلينا نحن استغباءً واضحًا كوننا على متابعة يومية لمجريات الأحداث في منطقتنا، بل وجميعنا، حتى الذين لا يتابعون الأخبار باستمرار، يعرفون أن الصهاينة قاموا بعدوان على القنصلية الإيرانية في دمشق واغتالوا خبراء ومستشارين إيرانيين.
الجمهور الأميركي الذي تستهدفه CNN بمعظمه ليس على علم بهذا الاعتداء الهمجي، وبالتالي التجهيل الذي قام به الاعلام هنا، رغم قباحته، يحاول التأثير على المتلقي بالتذاكي عليه، وباختيار الجزء المفيد لسياسته من سلسلة الأحداث ما يخدم هدفه المزدوج: تجريم الجمهورية الإسلامية في إيران عبر تظهيرها بدور المُعتدي، وجذب التعاطف مع “إسرائيل” عبر تصويرها بدور الضحية التي تتعرض للاعتداء. هذه السياسة الإعلامية المتبعة غربيًا بشكل عام وتعتمدها CNN بشكل تام، هي مصنع “الرأي العام الغربي”؛ وبالطبع لم ننسَ بعد كشاهد على ذلك، الاستماتة الإعلامية الغربية في التسويق لروايات كاذبة مرتبطة بالسابع من أكتوبر، وهي سرعان ما انكشفت بفضل النشاط الاعلامي المقاوم، على تواضع إمكاناته نسبة لتلك المرصودة في خدمة الاعلام الغربي، وبفضل نشاط عدد هائل من الأفراد من المتضامنين مع فلسطين والناشطين على منصات التواصل. إذًا، يجتهد الغرب في التسويق للرواية التي تخدم سياساته ويحاول بثها بذكاء في شوارعه؛ ينجح أحيانًا ويفشل أحيانًا… ولكنه يحاول قدر الإمكان التظاهر باحترام عقل الجمهور المستهدف، عبر اللعب على الكلمات والأحداث والصور وغيرها.
السياسة الإعلامية الأميركية في بلادنا مختلفة جدًا عنها في بلاد الغرب: هنا، لا يحاولون التذاكي، ولا يظهرون أي احترام لعقل الجمهور. يعتمدون على سرب من الأدوات المبرمجة على التكرار الببغائي، يرمون لهم “التعليمة” الشديدة الغباء حتى يظن السامع الفطن أنه ليس من الممكن أن يكون ما يُنطق به جديًا أو مقصودًا: ومن بين الأمثلة على ذلك، حين قالوا لسرب ببغاواتهم أن قولوا “هي مسرحية”. ولعل ما يدفع الأميركي إلى اعتماد هذه السياسة الإعلامية القائمة على التغابي، هو إما علمه بمستوى أدواته المتدني معرفيًا وبالتالي بانخفاض مستويات تقديرهم لذاتهم بحيث يرضون بالظهور بمظهر الأغبياء، وإما نتيجة لفوقيته كـ”رجل أبيض” يحسب شعوب هذه المنطقة شعوبًا “غبية” لا تستحق جهد التذاكي لجذبها وتجييشها. في الحالتين، على هامش الضربة الإيرانية المجيدة، ضربت أميركا بتعليمة سخيفة كل ما تبقى من مصداقية أدواتها ومن احترام بعض الجمهور لهم، حين قالت لهم سخفوا ما حدث، في ما كان اعلامها نفسه يعلق على هذا الحدث نفسه باعتباره حدثًا تاريخيًا ومفصليًا ويشكل تهديدًا مرعبًا لكل الوجود الغربي في المنطقة.
إذًا، قالوا لهم، “قولوا أنها مسرحية”.. واستخدموا كل ما يبثه الاعلام العبري من محاولات التستر على الخسائر، كمصدر يؤكد قولكم. ولأن الأداة لا تمتلك أن تناقش مشغلها في ما يأمرها به، طفت على سطح مستنقع الأمركة والتصهين في البلد كائنات تنعق بذات الكلمة، دون التفكر بها قليلًا… مثلًا، في وصف ما جرى بالمسرحية، يحاول الواصفون تظهير الموقف الإيراني كموقف ضعيف، ولا يحسبون الأمر جيدًا: إن كانت مسرحية، وإن كانوا جديًا مقتنعين بأنها كذلك، هل يجرؤ أحد منهم على طرح الأسئلة التالية على نفسه:
من هي الفئة المستهدفة من المسرحية؟ جمهور المقاومة؟ هل يظنن ذو عقل يعمل، أن إيران بحاجة لعمل مسرحيات من أجل اجتذاب هذا الجمهور؟ هذا الجمهور، هذه البيئة المحملة باليقين وبالمقاومة، لا تطلب دليلًا يؤكد حسن نوايا إيران في ما يخص ملف الحرب، وهي بغالبيتها تنتمي إلى روح المقاومة وتجيد عزة التسليم، بحيث لو قال قائدها بأن الجمهورية لن ترد لقالوا: القول قولها وهو بلا أدنى شك الأصح والأنسب. من المستهدف المحتمل التالي؟ الفلسطينيون وأهل غزة الذين يتعرضون لأمر جريمة إباده عرفها عصرنا؟ إن كان كذلك، فصيحات العز التي دوت في كل فلسطين في ليلة الضربة، وخاطبت الصواريخ وهي تجوب سماء فلسطين بقول “شكرًا إيران” و”لبيك يا حسين”، تستحق ألف “مسرحية” من هذا النوع. وبما أنها قد أثبتت نجاحها في غرس الفرحة داخل القلوب المثقلة بالاحتلال وجرائمه، لما لا تتفضل الدول العربية بتقديم عروض مسرحية مماثلة بغاية إسعاد الفلسطينيين وطمأنتهم؟
ما الذي يدفع بالأميركي إلى القبول بأن يقدم الإيرانيون “مسرحيتهم” التي ثمنها بالحد الأدنى تمريغ هيبة بني صهيون ومن معهم في الأرض؟ هل تجهل أميركا أن “عملًا مسرحيًا” بهذا الحجم كفيل بتحطيم صورة هيبة الصهاينة وجبروتهم؟ ألهذه الدرجة يهون الصهيوني على الأميركي؟ وإن كان كذلك، فيا بؤس وخيبة من نذروا أعمارهم في خدمة الرأس الأميركي وذيله الصهيوني. بمعنى، إن رضي الأميركي طوعًا بمسرحية تجرح ذيله وتضعفه، ورضي أن يُذل الصهاينة على مرأى العالم، فما بالك حول كيفية تعاطيه مع “روبوتاته” الناطقة بأغبى ما يكون؟
ماذا عن الارباك الحاصل عالميًا منذ لحظة انطلاق الصواريخ والمسيرات الإيرانية حتى الساعة؟ وماذا عن التدخل الأميركي والفرنسي مباشرة لحماية “إسرائيل”؟ وما الذي يدفع هذا العالم كله إلى استيعاب الصفعة التي تلقاها وعدم الانخراط في رد يؤدي إلى معركة إقليمية، لولا علمه أن “المسرحية” ليست سوى القليل من البأس الإيراني؟ بصراحة، يا لعظمة “مسرحية” تفعل كل هذا!
الناطقون بهذه السخافة الببغائية يستهدفون الجمهور العربي الذي لا يُراد له أن يصدق أن “اسرائيل” تُهزم، وأيضًا ألا يصدق أن الجمهورية الإسلامية في إيران هي اليوم قوة عظمى تنصر المستضعفين، وتواجه الاستكبار مواجهة ندية سيادية وذات قدرة نوعية على فعل ذلك. وهم، بناء على التعليمات نفسها، لا يحاولون حتى التظاهر باحترام عقل المستهدَف، بل يتعمدون تسطيحه وتسخيفه وصناعة وعي مهزوم.. وإن كان العمل الجبار الذي أوقف العالم كله مذهولًا هو مجرد “مسرحية”، فإن السياسة الإعلامية الأميركية في بلادنا هي فيلم ركيك يؤديه مجموعة من “كومبارس” رديئي الأداء والسمعة.
ليلى عماشا/العهد
مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :www.alalam.ir بتاريخ:2024-04-15 21:04:15