حزب البعث في سوريا: من حلم الوحدة إلى أداة السلطة

صدر الصورة، Reuters

التعليق على الصورة، جاء سقوط حكم بشار الأسد ليضع نهاية لعشرات السنين من سلطة البعث
  • Author, محمد عبد الرؤوف
  • Role, بي بي سي عربي
  • قبل 9 دقيقة

قبل ما يقرب من 80 عاما، كانت مجموعة من المعلمين والطلبة السوريين تبشر في المقاهي والمدارس بأفكار تدعو إلى وحدة العرب تحت مظلة حزب واحد يقود “الأمة العربية” إلى مستقبل واعد.

وبعد نحو عشرين عاما على ذلك، سيحكم الحزب – الذي سيحمل اسم “البعث” – سوريا، قبل أن تتطور الأمور ويكون اسمه مرتبطا عند معارضيه بالقمع والتسلط السياسي في البلاد.

فكيف تطور حزب سياسي أنشأه حالمون بمستقبل أفضل، إلى أداة للاستبداد ورمز للديكتاتورية؟ وهل يتعلق الأمر بسوء تطبيق أفكاره، أم أن الأزمة تكمن في تلك الأفكار ذاتها؟

وحدة العرب

وُلد حزب “البعث” من رحم أفكار تدعو إلى وحدة العرب، وهي أفكار بدأت بالتشكل في أواخر القرن التاسع عشر في مناطق عدة بالشطر الآسيوي من العالم العربي، كانت حينها خاضعة للحكم العثماني منذ القرن السادس عشر.

وفي بداية العقد الثاني من القرن العشرين، بدأ مثقفون موالون لفكرة العروبة بمعارضة توجهات السلطات الجديدة في الدولة العثمانية التي تبنت سياسة التتريك ومحاباة القومية التركية.

ثم جاءت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) لتعطي زخما لأفكار توحيد العرب ضمن دولة واحدة في ظل الانتفاضة المسلحة ضد الحكم العثماني التي قادها حاكم مكة الشريف حسين، المدعوم من قبل بريطانيا، وما تلاها من تولي ابنه فيصل عرش سوريا، قبل أن يخلعه الفرنسيون ويتولى لاحقاً حكم العراق بدعم البريطانيين عام 1921.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، جاء تولي فيصل نجل الشريف حسين عرش العراق ليعزز من تطلعات أنصار وحدة العرب

كانت حدود الأمة العربية الموحدة التي حلم بها فريق القوميين الأوائل تنتهي عند صحراء سيناء قبل أن تتطور الفكرة لاحقاً لتشمل مصر والدول المغاربية في شمال إفريقيا، على حد قول المؤرخ اللبناني الأصل ألبرت حوراني في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة: 1798 – 1939”.

جدل التأسيس

وبينما كانت سوريا خاضعة للاحتلال الفرنسي في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت الأصوات الداعية للوحدة العربية في تأسيس جماعات وأحزاب سياسية تدعو أيضا للاستقلال والتخلص من الاستعمار.

وجاءت حقبة أربعينيات القرن العشرين لتشهد سوريا تأسيس حزب البعث، الذي يبدو أنه يثير الجدل والنقاش حتى في محاولة تحديد التفاصيل الخاصة بمولده.

فهناك روايتان حول مؤسس “البعث”، إحداها ترجّح أنه من بنات أفكار زكي الأرسوزي، ابن مدينة اللاذقية، فيما تقول الأخرى أنه تأسس على يد اثنين من مثقفي دمشق، وهما ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار.

كان الأرسوزي يمتهن التدريس وواصل دراسته في جامعة السوربون بفرنسا قبل أن يعود ويشهد حالة الغضب في سوريا حيال قرار فرنسا التنازل عن منطقة الإسكندرونة لصالح تركيا عام 1939، وهو ما دفعه إلى التمسك بالأفكار القومية العربية.

وتتسم كتابات الأرسوزي بتمجيد مفهوم الأمة متأثرا بآراء المفكرين الألمان الذين دعموا وحدة ألمانيا في القرن التاسع عشر.

كذلك كان يبالغ في إشادته بأصالة اللغة العربية جاعلًا إياها أصل الكثير من اللغات السامية، فأسماء الفراعنة والكلدانيين والآشوريين “إنما هي تحريف لأسماء عربية” كما جاء في كتابه “الأمة العربية: ماهيتها، رسالتها، مشاكلها”.

وبينما كان يشيد الأرسوزي بالعرب لدرجة ترفعهم إلى مقام التقديس، فإن كتاباته احتوت أيضا على عبارات مسيئة بحق شعوب أخرى كالأتراك والفرس (الإيرانيين).

وتفيد روايات تاريخية بأن الأرسوزي أسس مع عدد قليل من رفاقه، حزبا سماه البعث في عام 1940.

وبغض النظر عن الاسم الذي حمله حزب الأرسوزي، فإنه لم يستمر طويلًا، إذ سرعان ما انفض رفاقه عنه، لينضموا إلى تجمع قومي آخر.

في ذلك الوقت كان عفلق والبيطار، وهما أيضاً ممن درسوا في جامعة السوربون، يبشران بالقومية العربية بين طلاب مدرسة التجهيزية الثانوية بدمشق حيث كانا يعملان في التدريس، بحسب دراسة الأكاديمي السوري نبيل الكيلاني “البعث السوري: 1940-1958: نجاح سياسي وإخفاق حزبي”.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، تعد كتابات ميشيل عفلق من أهم أدبيات التيار القومي

وبينما كان البيطار مدرساً للعلوم والرياضيات، فإنّ تخصص عفلق في التاريخ ساعده في صقل كتاباته المبشرة بالقومية العربية، والتي ستصبح فيما بعد أهم أدبيات التيار القومي.

وتمتلئ كتابات عفلق بالإشارات إلى ضرورة إحداث انقلاب ثقافي وروحي في عقول العرب لكي يضطلعوا بمهمة تحقيق الوحدة بينهم، التي ستكفل لهم العودة إلى المكانة البارزة التي كانوا يحتلونها في الماضي بحسب رأيه، وهي الفكرة التي ستتجسد في شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”.

ومن اللافت أيضاً في كتابات عفلق، وهو المسيحي الأرثوذكسي، الإشادة المتكررة بالإسلام والنبي محمد، ففي خطاب شهير عام 1943، أثنى عفلق على سيرة حياة النبي العربي التي قال إنها “صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية”.

وفي النهاية تجمع في مقهى الرشيد بالعاصمة دمشق في أبريل/نيسان عام 1947 عشرات الشباب أغلبهم من سوريا في مؤتمر تأسيسي لتبني صيغة دستور لحزب البعث العربي وانتخاب لجنة تنفيذية كان على رأسها عفلق والبيطار.

والبعث عند الآباء المؤسسين للحزب، سواء الأسوزي أو عفلق والبيطار، هو مرادف للإحياء، إي استعادة “الفترة الذهبية للعرب”، دون تحديد دقيق لبداية تلك الحقبة الزمنية ونهايتها. لكن يمكن القول إنها تشمل مرحلة تأسيس الدولة التي ظهرت مع انتشار الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي وامتدت لتشمل مناطق شاسعة من آسيا وأفريقيا بل وحتى أوروبا.

الحوراني والعسكر

في عام 1949، أعلن القائد العسكري حسني الزعيم حل مجلس النواب وأطاح بالحكومة ورئيس الجمهورية السورية، لتدخل البلاد في الدوامة الأولى من الانقلابات العسكرية التي استمرت حتى عام 1954.

وخلال تلك الفترة، بدأت تتشكل علاقة معقدة بين الجيش السوري والأحزاب، ومن بينها حزب البعث.

ففي غضون خمس سنوات سيسجن عفلق لفترة قصيرة، ثم يتولى بعدها وزارة المعارف، ثم يُنفى خارج البلاد .

وخلال تلك الفترة، لم يمتلك حزب البعث قاعدة جماهيرية كبيرة، إذ ظل حزباً للطلاب والمثقفين من أبناء الريف، وهو الأمر الذي سيتغير مع قدوم السياسي أكرم الحوراني.

كان الحوراني من مواليد حماة، وقد أولى اهتماماً مبكراً بأوضاع الفلاحين المتدهورة وعلاقتهم بكبار الملاك، ما أكسبه شعبية في أوساط المزارعين المهمشين في محافظة حماة، سمحت له بدخول البرلمان السوري أكثر من مرة، بل وتم اختياره لشغل منصب وزير الدفاع.

وفي عام 1952، اتفق ميشيل عفلق وصلاح البيطار مع أكرم الحوراني على أن يندمج حزب الأخير، العربي الاشتراكي، مع حزبهما، البعث العربي، لتكوين حزب البعث العربي الاشتراكي.

وسرعان ما ظهرت ثمار هذا الاندماج في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 1954 بعد سقوط حكم القائد العسكري أديب الشيشكلي.

فبينما تصدر حزب الشعب صاحب الشعبية الكبيرة في حلب قائمة الأحزاب الفائزة، تمكن حزب البعث من تحقيق مفاجأة بحصد العديد من المقاعد، إذ فاز بأغلبية المقاعد في محافظة حماة، معقل أكرم الحوراني، وبدأت أفكار الحزب بالانتشار في دول أخرى، أبرزها العراق.

وكانت أفكار حزب البعث الاشتراكية جاذبة لقطاع من السوريين من أبناء الأصول الريفية على اختلاف خلفياتهم الدينية، كما أدت التركيبة السكانية لسوريا إلى زيادة جاذبية البعث عند الأقليات، فالحزب ذو التوجهات الاشتراكية الداعمة للإصلاح الزراعي كان أكثر شعبية في الأرياف التي يتزايد فيها وجود الأقليات مقارنة بالمدن الكبرى ذات الحضور السني المكثف، بحسب ما جاء في كتاب الباحث والدبلوماسي الهولندي نيكولاس فان دام “الصراع على السلطة في سوريا”.

وتأسس الحزب على أساس هرمي، على رأسه القيادة القومية بزعامة عفلق بوصفه الأمين العام، تلتها فروع في الأقطار العربية تعتني بشؤون الحزب في كل بلد عبر قيادة قطرية.

وبدا في تلك الفترة أن الأحزاب السياسية في سوريا لم تعد مهتمة برصيدها الجماهيري فقط، بل سعت أيضاً إلى اجتذاب ضباط الجيش.

إذ كان للبعث، كغيره من الأحزاب السورية، أنصار داخل الجيش، ولعل من أبرزهم العقيد عدنان المالكي، الذي أدى اغتياله في عام 1955 إلى إقصاء الحزب القومي السوري من الساحة السياسية بعد أن اتُهم الحزب بالمسؤولية عن حادثة الاغتيال.

لكن الضابط الذي سيلعب الدور الأهم في تاريخ البعث وسوريا في الفترة التي تلت ذلك لم يكن سورياً، بل جاء من مصر.

عبد الناصر

كانت شعبية الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد تزايدت بشكل كبير في العالم العربي عقب قرار تأميم قناة السويس عام 1956، وما أعقبه من حرب شنتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل انتهت بتحقيقه مكاسب سياسية.

وفي العام التالي، كانت سوريا محط أنظار العالم في ظل إقدام الحكومة السورية على تعيين مسؤولين وضباط – كانت دول غربية تعتقد أنهم موالون للحزب الشيوعي السوري – في مناصب بارزة، الأمر الذي كاد أن يشعل فتيل مواجهة دولية بين الاتحاد السوفيتي، راعي الشيوعيين في العالم، والولايات المتحدة التي كانت تتوجس من أي مكاسب يحققها الشيوعيون في أي بقعة على الأرض.

وفي ظل هذه الأجواء، بادرت مجموعة من الساسة والضباط بالتوجه إلى القاهرة لكي تطلب من عبد الناصر القبول بوحدة بين مصر وسوريا.

كان من الطبيعي أن يتقدم حزب البعث وفود السوريين المبايعين لعبد الناصر صاحب التوجهات القومية، لكن الأمر قد يكون مرتبطاً أيضاً بخوف الحزب من تعاظم نفوذ الحزب الشيوعي المدعوم من قبل موسكو، كما يشير باتريك سيل في كتابه “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، تزايدت شعبية جمال عبد الناصر بعد حرب السويس عام 1956

وافق عبد الناصر على الوحدة مقابل شرطين رئيسيين، وهما حل الأحزاب في سوريا ليكون المشهد السياسي فيها مطابقاً للوضع في مصر، ومنع الجيش من المشاركة في السياسة.

وفي فبراير/شباط 1958، أُعلنت الوحدة بين مصر وسوريا، وأسندت للساسة البعثيين مناصب بارزة في “الجمهورية العربية المتحدة”.

شهر العسل بين عبد الناصر والبعثيين لم يدم طويلاً، فبعد عامين استقال الساسة البعثيون من الحكومة احتجاجاً على تفرد المصريين بالقرارات المصيرية، إلى جانب توسع الدولة البوليسية التي كان أبرز ممثليها الضابط السوري عبد الحميد السراج، الذي كان يُنظر إليه كرجل عبد الناصر القوي في دمشق.

وخلال فترة الوحدة، أعربت مجموعة من الضباط السوريين الموالين للبعث، الذين تم نقلهم إلى مصر، عن سخطها حيال الأوضاع القائمة، هذه “اللجنة العسكرية”، التي كانت نواتها في عام 1960 مشكلة من خمسة ضباط كان من بينهم الضابطان الشابان صلاح جديد وحافظ الأسد، سيكون لها لاحقاً دور مهم في مستقبل سوريا.

وفي عام 1961، انتهى حلم الوحدة عبر انقلاب جديد في سوريا، وكان من اللافت أن القيادي البعثي أكرم الحوراني كان من بين الساسة الذين دعموا الانفصال عن مصر، بينما عارضه ميشيل عفلق، وتذبذبت مواقف صلاح الدين البيطار بين التأييد والمعارضة.

وجاءت تجربة الوحدة ثم الانفصال لتُحدث شرخاً بين قادة البعث وقاعدته، فهناك من وجد غضاضة في قبول الحزب شرط عبد الناصر بحل الأحزاب، بينما ندد فريق آخر بمشاركة قادة الحزب في دعم الانفصال عن مصر عبد الناصر.

البعث في الحكم

شهدت سوريا عقب الانفصال عودة الحياة الدستورية وحرية الصحافة وإجراء انتخابات تنافسية، لكن تلك المرحلة لم تستمر طويلاً، إذ انتهت في عام 1963 الذي مثّل نقطة فاصلة في تاريخ حزب البعث في سوريا وخارجها.

ففي فبراير/شباط 1963، تمكن ضباط قوميون وناصريون وبعثيون من الإطاحة بحكم رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم، ليبدأ العراق مرحلة من التطورات انتهت في عام 1968 بانفراد حزب البعث بالحكم.

أما في سوريا، فجاء انقلاب 8 مارس/آذار 1963 الذي شارك فيه ضباط ناصريون وقوميون بجانب أعضاء اللجنة العسكرية البعثية، ليضع نهاية لحقبة الانفصال وما شهدته من انفتاح سياسي، ويدشن مرحلة جديدة في تاريخ البلاد.

كان الضباط البعثيون الشباب أكثر ولاء لتطلعاتهم السياسية من التزامهم بتوجيهات القادة المؤسسين للحزب، وهكذا بدا أن هناك نسختين لحزب البعث: الأولى الخاصة بالآباء المؤسسين، التي كانت غارقة في المناقشات وتصفية الحسابات حول أخطاء الوحدة، والثانية معنية بتوطيد سيطرة الضباط على الحكم، حتى وإن كان ذلك بشكل غير مباشر ومن وراء الكواليس.

وانعكس ذلك الانقطاع بين البعث القديم ونسخته العسكرية الجديدة على مستقبل أكرم الحوراني، الذي انفصل عن رفيقيه عفلق والبيطار قبل أن يغادر سوريا، ويكتفي بمراقبة الأحداث في بلاده حتى وفاته في الأردن عام 1996.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، كان صلاح جديد من أبرز أعضاء اللجنة العسكرية لحزب البعث التي تشكلت في مصر خلال الوحدة

شهدت الفترة التي تلت انقلاب 1963 محاولات غير جادة لتحقيق وحدة جديدة بين سوريا والعراق ومصر دون أن تسفر عن أي تقدم، بل تسببت في المزيد من التوتر بين البعث بشطريه وعبد الناصر الذي وجه انتقادات لاذعة للحزب وزعمائه، كما يشير الكاتب اللبناني سليمان الفارزلي في كتابه “حروب الناصرية والبعث”.

لكن الحكام الجدد في دمشق باشروا بالعودة إلى سياسات التأميم والإصلاح الزراعي اليسارية التي انتهجها عبد الناصر، وهي سياسات لا تزال تثير جدلاً حول جدواها بين مؤيدين ومعارضين، لكنها عادت بالنفع على شرائح من الفقراء والمهمشين، خاصة الفلاحين، وساهمت في تحسن أوضاع البنية التحتية في المناطق الريفية بشكل كبير.

ومثلما كان الحال في زمن الوحدة تحت قيادة عبد الناصر، فإن حكم البعث بداية من عام 1963 لم يشهد إجراء أية انتخابات تنافسية، وغابت المعارضة السياسية الحقيقية تماماً، وقمع المعارضون.

واتبع الحكم الجديد في سوريا خطاً سياسياً ملتزماً بدعم الفلسطينيين في الصراع ضد إسرائيل، وهو ما أسفر في نهاية المطاف، مع عوامل أخرى، عن نشوب حرب يونيو/حزيران 1967 التي تكبدت فيها سوريا ومصر والأردن خسائر كبيرة على يد إسرائيل.

وبينما يمكن أن تكون أدبيات البعث الداعمة بشدة للفلسطينيين والرافضة لتأسيس دولة إسرائيل مفتاحاً لفهم الموقف السوري من الصراع مع إسرائيل، فإن هناك فريقاً من الباحثين والمراقبين يرى أن الحكومات السورية استخدمت الصراع مع إسرائيل لتحويل الانتباه عن الخلافات الداخلية المتعددة، كما يقول الاكاديمي الإسرائيلي يعقوب بار سيمون توف في كتابه (السياسة المترابطة في الشرق الأوسط: سوريا بين الصراع الداخلي والخارجي، 1961-1970).

وأثار الخط العروبي للبعث انتقادات من قبل أكراد سوريا الذين اتهموا الحزب بتنفيذ سياسات تعريب قسرية ستنتهي لاحقاً بإجراء عملية تغيير ديموغرافي في شمال البلاد، وسيكون الأكراد هم ضحيتها.

البعث ضد البعث

وشهدت أيضاً فترة ما بعد انقلاب 1963 صدامات بين البعث والناصريين، كما شهدت مواجهات وتصفية حسابات داخل حزب البعث ذاته، ليست بين التيارين القديم والجديد فحسب، بل بين رفاق الأمس من أعضاء اللجنة العسكرية.

وعقب انقلاب آخر حدث في عام 1966، تمكن الجناح الذي يضم صلاح جديد وحافظ الأسد من إحكام قبضته على الحكم ليرحل عفلق والبيطار إلى خارج البلاد، واستقل عفلق لاحقاً في العراق، حتى توفي عام 1989.

وهكذا صار هناك رسمياً بعثان متنافسان: الأول في سوريا التي بدأت تتبنى الرواية التي تنسب إنشاء الحزب إلى زكي الأرسوزي، والثاني في العراق حيث يوجد عفلق، الذي حكم عليه بالإعدام في سوريا، ليعيش في ظل حكم صدام حسين، الذي لم يكن أقل استبداداً من حكم بعث سوريا.

أما صلاح الدين البيطار فقد عاد إلى سوريا زمن حافظ الأسد لفترات متقطعة قبل أن ينشر مقالات معارضة للنظام الحاكم في دمشق وهو ما أعقبه اغتياله في باريس عام 1980.

ومع مرور الوقت، بدا أن سوريا على موعد مع مواجهة مؤكدة بين صلاح جديد، الذي فضل أن يتولى منصباً بارزاً في حزب البعث، وحافظ الأسد الذي أسندت إليه وزارة الدفاع.

ومرة أخرى، ستكون للجيش اليد العليا في سوريا، إذ سيقود الأسد انقلاباً عام 1970 ليطيح بصلاح جديد، الذي أُودع السجن وتوفي فيه عام 1993.

حزب الأسد

بعد أن تولى الأسد منصب الرئيس في عام 1971، بدا أنه يسعى لتوطيد حكمه بعدم السماح بتكرار ظاهرة الانقلابات العسكرية المتكررة التي شهدتها سوريا منذ عام 1949.

واستمر الأسد في نهجه الذي كان قد دشنه سابقاً، وهو أن يجعل الجيش حكراً على حزب البعث وحده، وسمح بعودة عدد من الأحزاب اليسارية والقومية إلى الساحة السياسية، لكن من دون المساس بهيمنة البعث على البلاد، وجاء دستور 1973 لينص على أن حزب البعث “هو الحزب القائد في المجتمع والدولة”.

وشهد حكم حافظ الأسد تزايداً كبيراً في عدد أعضاء البعث، إذ صارت عضوية الحزب طريقاً لحصد الطلاب درجات إضافية وتأمين مستقبلهم المهني، ويشير المؤرخ اللبناني كمال ديب في كتابه “تاريخ سوريا المعاصر” إلى أن عدد القضاة في عام 2000 بلغ نحو 1300، من بينهم 1000 كانوا أعضاء في حزب البعث.

بدورها سعت السلطات في دمشق لفرض أفكار حزب البعث على طلاب المدارس والجامعات.

صدر الصورة، getty

التعليق على الصورة، تولى الأسد رئاسة سوريا عام 1971

اقتصادياً، بدأت سوريا تتراجع ببطء عن التوجهات اليسارية المتشددة التي شهدتها خلال الستينيات.

أما في مجال العلاقات الخارجية، فقد خاضت سوريا مع مصر حرب أكتوبر/تشرين 1973 ضد إسرائيل، بجانب انخراطها في الحرب الأهلية اللبنانية.

ولم يُقدم الأسد على المشاركة في أية مشاريع وحدوية جديدة، رغم أن الفكرة طرحت أكثر من مرة، لكن في المقابل بدأت سوريا تستقبل الكثير من عناصر البعث من الدول العربية الذين تلقوا تعليمهم في مدارس وجامعات سوريا.

وكان لافتاً العداء الواضح بين سوريا والعراق، التي يحكمهما نظرياً حزب واحد، وهو ما انتهى إلى أن دعمت دمشق طهران في الحرب العراقية الإيرانية.

وعلى مدار السنين، تحول البعث في سوريا إلى حزب الرئيس، واختفى أي تباين حقيقي داخل مؤتمرات الحزب التي كانت دائماً تشيد بسياسات الأسد، الذي كانت تماثيله وصوره موجودة في كثير من الأماكن العامة.

لكن التحدي الحقيقي الذي واجهه الأسد جاء من خارج المنظومة السياسية الرسمية عبر حركات العصيان المسلح التي قادها الإسلاميون.

البعث في مواجهة الإسلاميين

رغم أن كتابات ميشيل عفلق كانت تنظر إلى العلمانية الغربية بشكل سلبي، إلا أن حديثه عن المجتمع العربي المثالي الذي لا يفرق بين الناس بغض النظرعن عقيدتهم، مهّد الطريق للصيغة المدنية غير الدينية التي ستكون من سمات حزب البعث وحكمه، الأمر الذي سيضعه في خصام مع شرائح محافظة من الأغلبية السنية من الشعب السوري، خاصة أصحاب التوجهات الإسلامية.

ولم تكن مدنية الحزب أو علمانيته هي الهدف الوحيد الذي وجه إليه الإسلاميون سهام النقد، بل كان الأمر متعلقاً أيضاً بتهمة الطائفية وهيمنة المنتميين للطائفة العلوية على مقاليد الحكم.

فحكم البعث عاد بالنفع على أبناء الأقليات الدينية، خاصة المهمشة منها كالعلويين، لكن إرهاصات ذلك الصعود الاجتماعي كانت مرتبطة بتطورات اجتماعية سابقة على وصول البعث إلى السلطة.

فقد جاء التحاق أبناء الأقليات الدينية المهمشة بصفوف الكليات العسكرية عقب الاستقلال، ليزيد من حضورهم في الجيش السوري ولاحقاً في الساحة السياسية في البلاد، فاللجنة العسكرية لحزب البعث التي قادت انقلاب 1963 كانت نواتها الأساسية مشكلة بالأساس من ثلاثة ضباط علويين واثنين من الإسماعيليين، قبل أن تتوسع عضويتها وتضم ستة ضباط من السنة.

وكثيراً ما نفى قادة في البعث تهمة الانحياز الطائفي، مستشهدين بالقيادات السنية التي تبوأت أعلى المناصب خلال حكم الحزب، لكن تلك الحجج لم تكن مقنعة بالنسبة للإسلاميين ومعارضين أخرين.

ففي ستينيات القرن العشرين شهدت سوريا عدداً من حوادث التمرد المسلح من قبل الإخوان المسلمين، خاصة في مدينة حماة، ورغم أن القوات الحكومية أخمدت حركات التمرد الإسلامي تلك، إلا أن الأمر أظهر حجم معارضة قطاع من السوريين لموقف الحزب من الدين، ما دفع القيادة البعثية إلى محاولة إمساك العصا من المنتصف، وهو ما ظهر بوضوح في أزمة مقال نُشر في مجلة الجيش عام 1967.

المقال الذي حمل عنوان “وسائل خلق الإنسان العربي الجديد” دعا إلى “التخلص من التقاليد البالية التي تعوق التقدم ومنها قيم الله والدين والإقطاعية والاستعمار” لتشتعل موجة احتجاجات دفعت السلطات إلى التنصل من المقال واصفة إياه بـ”المقال المدسوس”.

حافظ الأسد، الذي كان أول رئيس علوي لسوريا، حاول بدوره ألا يثير غضب القطاعات المحافظة في سوريا، فعمل على تخفيف جرعة العلمانية، إذ قام بالحج في عام 1974 كما دأبت الصحف على نشر صوره وهو يؤدي الصلاة في المساجد في المناسبات الدينية، بحسب ما جاء في كتاب المؤرخ اللبناني كمال ديب عن تاريخ سوريا المعاصر. كذلك، عادت المادة الدستورية التي كانت تَقصُر منصب الرئيس على المسلمين إلى دستور عام 1973.

لكن مرة أخرى لم تفلح مثل تلك الأفعال في ثني الإسلاميين عن التمرد، ففي عام 1976 بدأ مسلحون إسلاميون متشددون باستهداف وقتل مسؤولين بعثيين وطلاب وأساتذة، أغلبهم علويون، لتدخل البلاد في دوامة من العنف شهدت محاولة فاشلة لاغتيال الأسد، وكان الرد الحكومي بقتل مئات السجناء التابعين للإخوان المسلمين في سجن تدمر.

ووصلت الأمور إلى ذروتها في مدينة حماة عام 1982 التي شهدت تمرداً قادته جماعة الإخوان المسلمين وقمعته الحكومة ما تسبب في مقتل آلاف السكان إن لم يكن عشرات الآلاف.

وبعد القضاء على التحدي الإسلامي، كان التهديد الوحيد الذي شكل خطراً حقيقياً على حكم حافظ الأسد هو محاولة لم تكلل بالنجاح من قبل شقيقه رفعت، لاستغلال فرصة مرض الرئيس والسيطرة على الحكم.

الابن يسطر النهاية

وفي تسعينيات القرن العشرين بدا أن حافظ الأسد يعتزم توريث الحكم لنجله الأكبر باسل، لكن بعد وفاة الأخير عام 1994 استدعي شقيقه الأصغر، الذي كان يدرس طب العيون، بشار من لندن وبدأ إعداده لخلافة الرئيس.

وفي عام 2000 توفي حافظ الأسد ليتولى الطبيب الشاب بشار منصب رئيس البلاد بعد أن وافق مجلس الشعب على تعديل مادة في الدستور كانت تشترط ألا يقل عمر الرئيس عن 40 عاماً، في مشهد أذكى حجج المعارضين بشأن كون حزب البعث مجرد واجهة سياسية تستخدمها الطبقة الحاكمة لتعزيز سلطتها.

وبعد فترة قصيرة من الانفتاح النسبي عُرفت بربيع دمشق عادت الجهات الأمنية لتقمع المعارضين، خاصة في ظل التطورات الكبرى في الشرق الأوسط مثل غزو العراق واغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، تولى بشار الأسد الحكم بعد وفاة والده في عام 2000

وكان لافتا أن أعلام حزب البعث التي كانت موجودة في كل المنصات العامة بدأت تختفي لصالح علم البلاد مع بدء الانتفاضة الشعبية، كذلك ألغيت المادة الدستورية التي كانت تنص على أن الحزب يقود الدولة والمجتمع، ما يشير إلى أن حضور البعث أمسى هامشياً في ظل الصراعات التي تشهدها البلاد.

وبعد سنوات من الاقتتال الداخلي والدعم الروسي الإيراني لحكومة الأسد، تمكن الجيش السوري وحلفاؤه من استعادة السيطرة على مناطق واسعة من البلاد.

لكن نهاية عام 2024 شهدت تطورات متلاحقة بشكل غير طبيعي بعد أن بدأ المسلحون الإسلاميون في السيطرة على المدن والبلدات السورية وصولًا إلى العاصمة دمشق في 8 ديسمبر/كانون أول، ليرحل الأسد إلى روسيا ويسطر نهاية لعشرات السنين من حكم حزب البعث الذي أُعلن تعليق نشاطاته في سوريا.

وجاء سقوط نظام الأسد كشهادة وفاة رسمية لحزب البعث في سوريا بعد سنوات من الموت السريري، فالحزب الذي كثيرا ما تحدث عن اهتمامه بالجماهير لم تشهد البلاد في ظل حكمه أية انتخابات حرة وتحول إلى أداة في يد السلطة العسكرية.

أما مؤسسو حزب البعث، فقد التزموا الصمت، في أفضل الأحوال، إزاء القمع الذي تعرضت له أحزاب وشخصيات سياسية أخرى، كما أنهم ارتضوا أن يكونوا شركاء في لعبة سياسية لم تكن صناديق الاقتراع هي العامل الحاسم فيها، بل حُسمت عبر القوة العسكرية.

مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :www.bbc.com
بتاريخ:2025-01-11 07:00:00
الكاتب:
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

JOIN US AND FOLO

Telegram

Whatsapp channel

Nabd

Twitter

GOOGLE NEWS

tiktok

Facebook

/a>

Exit mobile version