حقبة دبلوماسية جديدة في المملكة العربية السعودية

شفقنا-بعد الحرب العالمية الثانية والتواجد البارز للولايات المتحدة في الشرق الأوسط الغني بالنفط، نادرا ما كانت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة متوترة. ولعل الحظر النفطي في خضم حرب يوم الغفران كان استثناء لهذه القاعدة بسبب تدخل الولايات المتحدة فيها لصالح إسرائيل. لقد كانت سياسة التبادل النفطي دائما مقابل الحفاظ على الأمن، استراتيجية المملكة العربية السعودية في منطقة مليئة بالمنافسة.

ولكن منذ أن خفضت واشنطن اعتمادها على الوقود الأحفوري السعودي وشككت الرياض في التزام أمريكا بأمن المملكة العربية السعودية، يبدو أن هذه الاستراتيجية قد فشلت. 

والآن، ومع تنفيذ سياسات محمد بن سلمان، ولي العهد والزعيم الفعلي للمملكة العربية السعودية، حاول هذا اللاعب أن يدير وجهه نحو الشرق ويوسع تعاونه من خلال تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع الصين وروسيا ومجموعة من القوى الإقليمية، على الرغم من أنها لا تريد أن تفقد مجموعة من المساعدات والتعاون مع الولايات المتحدة.

وتجاهلت الرياض الدعوات الأمريكية المتكررة لزيادة إنتاج النفط بعد الهجوم الروسي وبدلا من ذلك قامت بتنسيق تخفيضات الإنتاج من خلال أوبك +، مما عزز أسعار الوقود العالمية وأضعف العقوبات الغربية. ومع ذلك، يبدو أن حقبة جديدة قد بدأت في الظهور في المملكة العربية السعودية مع عقلانية القرن الحادي والعشرين القائمة على التقدم والاعتماد الأقل على مبيعات الوقود الأحفوري.

تغيير نماذج الرياض

على مدى السنوات الثلاث الماضية، تغيرت السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية من موقف المواجهة والتدخل إلى موقف يؤكد على التفاعل البناء وبناء الجسور مع القوى الأخرى في المنطقة. شرعت الرياض في تحول دبلوماسي مكثف، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مدعوما بإيرادات النفط الوفيرة، والنمو الاقتصادي القوي، وزيادة الثقة بالنفس.

إن التعامل مع الولايات المتحدة سيسمح لها بتركيز طاقتها على برنامج التحول الاقتصادي لرؤية 2030 مع زيادة نفوذها العالمي. ومع ذلك، كشفت الصراعات المتجددة، داخل وخارج الشرق الأوسط، عن حدود الدبلوماسية السعودية والمستوى العالي من المخاطر الجيوسياسية التي تواجهها المملكة الغنية.

ووفقا لجون كالابريس، أستاذ السياسة الخارجية الأمريكية في الجامعة الأمريكية في واشنطن، هناك مجموعة من العوامل، بما في ذلك انخفاض الثقة في الضمانات الأمنية للولايات المتحدة، والحاجة الملحة لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، والتكاليف المادية للتدخل العسكري لهذا البلد في اليمن، أدت إلى التحول الواضح في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية بعيدا عن المواجهة.

ومؤخرا يشير مراقبون في واشنطن إلى أن الشريك الرئيس للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أي المملكة العربية السعودية، لم يظهر كشريك بأي شكل من الأشكال، إلا أن الحرب الحالية بين إسرائيل وحماس ألقت عبئا ثقيلا وجديدا على علاقات الجانبين. والسعودية –على غرار إدارة بايدن-مهتمة للغاية بعملية التطبيع مع إسرائيل. لقد أبطأت الحرب هذه العملية، لكنها لم تخرجها عن مسارها بأي حال من الأحوال. في الواقع، يمكن لواشنطن أن تتطلع إلى الرياض للعب دور رئيس في فترة ما بعد الحرب.

لكن تفاعل السعودية مع الولايات المتحدة شهد تغيرات في الآونة الأخيرة، ونتيجة الحرب الأخيرة في المنطقة يمكن أن تغير تماما عملية التفاعل بين هذين الفاعلين. وفي الآونة الأخيرة، تمكنت المملكة العربية السعودية من الانسحاب من التوتر مع أنصار الله في اليمن، وتماشيا مع طموحاتها، ركزت على التقدم الداخلي.

لكنها تعلم جيدا أن التقدم يتطلب رأس المال والأمن. ويبدو أن محمد بن سلمان لم يتمكن من العثور على أي من هذا في الولايات المتحدة. تستشهد المملكة العربية السعودية بهجوم بطائرات بدون طيار وصاروخ في 14 سبتمبر 2019 على مصفاة نفط بقيق وحقل نفط خريص أرامكو، مما أدى إلى تعطيل أكثر من نصف إنتاج النفط في المملكة العربية السعودية.

وردا على هذا الهجوم وقرار الولايات المتحدة التراجع والتقاعس دفاعا عن السعودية، بدأت الرياض جهودها لإجراء محادثات غير مباشرة مع طهران لتهدئة التوترات. وبطبيعة الحال، كان لخفض التصعيد هذا وسيط مهم قرر الاستثمار بكثافة في المملكة العربية السعودية. وفي الواقع، كانت المملكة العربية السعودية تدرك جيدا أنه يتعين عليها الاعتماد على براغماتية بكين بدلا من النهج الدفاعي المزعوم لواشنطن.

العلاقة الاستراتيجية مع بكين

وعندما زار بايدن الرياض في يوليو 2022، أخبر القادة العرب أن الولايات المتحدة ليس لديها أي نية لمغادرة الشرق الأوسط. وزعم: “لن نخرج من هنا ولن نترك فراغا تملأه الصين أو روسيا أو إيران. أمريكا لن تذهب إلى أي مكان.” إن إمكانية إقامة علاقات أعمق مع المملكة العربية السعودية، والتي من شأنها أن تشمل ضمانات أمنية أمريكية، كانت محل نقاش ساخن في واشنطن.

وبغض النظر عن ذلك، تسعى واشنطن إلى إلغاء أولويات المنطقة ككل، والتركيز بدلا من ذلك على الحرب في أوكرانيا والمنافسة مع الصين في المحيط الهادئ. وفي الوقت نفسه، كثفت الصين مشاركتها في الشرق الأوسط، ولا سيما التوسط في وقف التصعيد بين المملكة العربية السعودية وإيران في مارس 2023.

منذ عام 2011، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري للمملكة العربية السعودية وواحدة من أكبر مستوردي النفط الخام منها. وفي الآونة الأخيرة، قامت القوتان الناشئتان بتوسيع علاقتهما إلى ما هو أبعد من التجارة. وفي عام 2022، قامت الرياض وبكين بترقية علاقتهما إلى شراكة استراتيجية شاملة خلال زيارة وصفتها الصين بأنها “علامة فارقة في تاريخ تطور العلاقات الصينية العربية”. وبالتركيز على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، يرى المحللون أن العلاقات السعودية الصينية تطورت من هيكل تجاري يعتمد على النفط إلى شراكة استراتيجية أكثر شمولا تشمل مشاريع البنية التحتية ونقل التكنولوجيا المتقدمة.

  يعتقد القادة السعوديون أن الاستثمارات والخبرة الصينية يمكن أن تساعدهم في تنويع اقتصادهم بعيدا عن الوقود الأحفوري. وعندما سُئل وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان عن الانتقادات الغربية للعلاقات السعودية الصينية المتنامية، قال إنه “يتجاهلها” لأنه “كرجل أعمال، سوف تذهب حيثما سنحت الفرصة”.

يشير هذا الأمير السعودي الثري إلى براغماتية عهد بن سلمان؛ براغماتية وصلت إلى حد بناء محطات ومنشآت الطاقة النووية، وبمشاركة الصين وبالطبع بمعارضة الولايات المتحدة، سيتم إنشاء منشآت نووية على أراضي المملكة العربية السعودية. من أجل جعل المملكة العربية السعودية خالية تدريجيا من الوقود الأحفوري. كما أن استثمار الصين في إنتاج الطاقة من خلال الألواح الشمسية في المملكة العربية السعودية مدرج أيضا على جدول أعمال بكين والرياض.

  وتساعد الشركات الصينية في بناء البنية التحتية في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك السكك الحديدية عالية السرعة والطاقة المتجددة والاتصالات. وبموجب شراكتهما الاستراتيجية الجديدة، اتفقت الصين والمملكة العربية السعودية على “خطة مواءمة” بين مبادرة الحزام والطريق الصينية والأجندة المحلية لرؤية 2030 للمملكة العربية السعودية، مما جلب عشرات الاتفاقيات بما في ذلك الطاقة الهيدروجينية وإنتاج السيارات الكهربائية وتكنولوجيا المعلومات.

 وفي علامة أخرى على تعاونهما الوثيق، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ في قمة الخليج 2022 أن الصين تخطط لتداول النفط من المملكة العربية السعودية باليوان بدلا من الدولار. أخبار يمكن أن تعزز التفاعل بين هذه الجهات الثلاثة في المنطقة بسبب تطبيع العلاقات السعودية مع إيران.

المملكة العربية السعودية أولا

  أعطى الحدث العالمي الرئيس لعام 2022، الحرب في أوكرانيا، للسعوديين سببا آخر للاعتقاد بقدرتهم على لعب دور أكبر في الساحة الدولية بشكل مستقل عن رغبات واشنطن. إن الهجوم الروسي على أوكرانيا وتسليح موسكو بإمدادات الطاقة قد ذكّر العالم بأهمية هذه المملكة في سوق الطاقة العالمية. لقد أصبحت البراغماتية السعودية في سياسة “السعودية أولا” ميثاقا يختبر به صناع السياسة في هذه المملكة قراراتهم.

يرى الخبراء إن السياسة الخارجية الجديدة للمملكة العربية السعودية تتزامن بانتظام مع مبادرات التنمية الاقتصادية في البلاد. وفي عام 2016، كشفت المملكة عن مشروعها الكبير، رؤية 2030، لتنويع الاقتصاد وتغييره. وتهدف المبادرة الطموحة إلى الابتعاد عن الاقتصاد المعتمد على النفط الخام وإعادة تحويل المملكة إلى وجهة سياحية ومركز مالي وتجاري ومصدر رئيس للطاقة النظيفة.

واحتاج المخططون السعوديون إلى نفقات ضخمة وأسعار نفط مرتفعة لتحقيق أهدافهم. ولتحقيق هذا الهدف، دخلت المملكة العربية السعودية، باعتبارها الزعيم الفعلي لمنظمة أوبك، في شراكة مع روسيا في عام 2015 حتى يتمكن كلا البلدين من السيطرة على أسعار النفط. وأثار هذا الإجراء غضب إدارة بايدن.

وعلى الساحة العالمية، يتضمن النهج الجديد للمملكة بذل جهود للحفاظ على الشراكات القديمة مع إقامة علاقات جديدة مع موسكو. لقد أعطت الحرب في أوكرانيا للرياض فرصة رائعة لتنويع علاقاتها الدولية مع طرفي الصراع. ولم يدين السعوديون روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة بسبب غزوها لأوكرانيا.

استثمرت الشركة القابضة للمملكة العربية السعودية أكثر من 500 مليون دولار في ثلاث شركات طاقة روسية كبرى في أول شهرين بعد الهجوم. وحقق ولي العهد السعودي نجاحا، حينما قام بدور الوسيط وبطلب من روسيا، تبادل أسرى الحرب بين أوكرانيا وروسيا. وتأمل الرياض أن تتمكن السياسة المتوازنة من انهاء الحرب، وهو ما سيمثل نصرا دبلوماسيا كبيرا لدولة كان يُنظر إليها ذات يوم على أنها عدو إقليمي.

ويبدو أن السعودية تمكنت من التعلم من ماضيها والتحرك بشكل أكثر واقعية نحو الأهداف التي حددها ولي عهدها الطموح. ستة أشهر مضت على الحرب التي توشك أن تجتاح المنطقة، ونأت السعودية بنفسها عن نيرانها. وفي الساحة الدولية، مع قربها من الشرق وعدم اتباعها نهج العنف أو المصالحة مع الولايات المتحدة، تمكنت من الحفاظ على التوازن لصالحها.

المصدر: صحيفة اعتماد

————————

المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع

————————–

النهاية

 

مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :ar.shafaqna.com بتاريخ:2024-04-12 02:48:42

Exit mobile version