حين تهوّل المصارف بخطر “اللائحة الرماديّة”

من المفترض أن تبت مجموعة العمل المالي خلال شهر أيلول مصير تصنيف لبنان، على مستوى مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بينما ترتفع اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، احتمالات تخفيض هذا التصنيف وإدراج البلاد على اللائحة الرماديّة.

بعد نحو خمس سنوات من حصول الانهيار المصرفي، وعدم المضي بأي خطة لإعادة هيكلة القطاع المالي، بات اقتصاد النقد الورقي بيئة خصبة لكافّة أشكال العمليّات غير المشروعة، بمعزل عن مستوى الإجراءات التي يتخذها مصرف لبنان اليوم. أمّا التحلّل الذي يصيب مختلف المؤسسات الرسميّة، ومنها السلطات القضائيّة والضريبيّة، فصار عائقًا إضافيًا يحول دون تفعيل معايير الرقابة والمحاسبة التي تفرضها المؤسّسات الدوليّة.

ثمّة مسؤوليّة لا يمكن تجاهلها هنا، على مستوى دور اللوبي المصرفي في عرقلة الحلول التي كانت تحتاجها الأزمة، والتي لا تتناسب مع مصالح المصرفيّين المتمسّكين بملكيّة مؤسساتهم. بقاء المصارف بوضعيّة “الزومبي” الراهنة، كان نتيجة رفض المصارف إياها مسار إعادة الهيكلة، الذي كان يفرض شطب رساميل هذه المؤسّسات وتأمين رساميل جديدة. وهذه المصالح تقاطعت طبعًا مع مصالح سياسيّة، لا تنسجم مع فكرة معالجة الخسائر على قاعدة المساءلة والمحاسبة. بهذا المعنى، بات الاقتصاد المحلّي برمّته أسير شبكة المصالح المتداخلة بين النخبتين السياسيّة والماليّة، والتي أقحمت البلاد في مسار السقوط الحر الذي تشهده اليوم.

افتتاحيّة فادي خلف ولعب دور الضحيّة
من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم افتتاحيّة الأمين العام لجمعيّة المصارف فادي خلف، بوصفها ضربة استباقيّة تحاول إبراء ذمّة الجمعيّة، بما يخص احتمالات إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة. ما تريده جمعيّة المصارف هنا، هو تصوير نفسها كضحيّة للسياسات الرسميّة، التي لم تقم بما يكفي للحؤول دون الوصول إلى هذا السيناريو، قبل أن يتم تحميل الجمعيّة نفسها نصيبها من المسؤوليّة بخصوص عرقلة الحلول الماليّة والمصرفيّة.

تهويل خلف، إزاء تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة، هي في مكانها طبعًا. وهذه التداعيات ستشمل حكمًا، وتمامًا كما أشار خلف، وضع النظام المالي اللبناني “تحت المراقبة الشديدة”، بما يؤثّر على قدرة هذا النظام على “استقطاب الأموال من الخارج في المستقبل”.

ما يمكن أن نضيفه إلى ما قاله خلف، هو أنّ هذه التداعيات سترفع كلفة التحويلات بين لبنان والخارج، بل وقد تؤدّي إلى ابتعاد المصارف المراسلة عن العمل مع المصارف اللبنانيّة، ما سيزيد من التعقيدات التي تحيط بتحويلات المغتربين إلى لبنان.

غير أنّ خلف سرعان ما ينتقل إلى توزيع المسؤوليّات، ليصوّب على “المآخذ” الدوليّة على الوضع اللبنانيّة، والتي لخّصها بثلاث نقاط: اتساع الاقتصاد النقدي، التحديات المرتبطة بالفساد في المؤسسات الحكوميّة، والملفّات العالقة في القضاء. في تلخيص هذه النقاط، استند خلف إلى تقارير مجموعة العمل المالي، وما تضمّنته من ملاحظات على أداء السلطات اللبنانيّة، على مستوى مكافحة تببيض الأموال وتمويل الإرهاب.

وهنا يمكن القول أن خلف لامس الحقيقة بما يقوله، غير أنّه تجاهل -وعن قصد- الدور الذي لعبته جمعيّة المصارف في سوق البلاد بهذا الاتجاه. ببساطة، جمعيّة المصارف، التي يكتب باسمها خلف هذه الافتتاحيّة، كانت شريكاً فعلياً في صياغة هذه البيئة الماليّة، التي يشكو ويحذّر منها خلف اليوم، والتي قد تقود البلاد نحو اللائحة الرماديّة في الأسابيع المقبلة. تعداد النقاط الثلاثة، من دون تفصيل مسؤوليّة الجمعيّة، هو محاولة لرمي المسؤوليّة الكاملة على السلطة السياسيّة، وتجاهل المصالح التاريخيّة المتشابكة والمعروفة بين السياسيين والمصرفيين.

مسؤوليّة جمعيّة المصارف
ما لم يقله فادي خلف مثلًا، هو أن المصارف لعبت دور البطولة في عرقلة الملفّات القضائيّة، التي تتحدّث عنها مجموعة العمل المالي. فهل يمكن لأحد أن ينسى امتناع المصارف عن تزويد القضاء اللبناني بداتا القروض التي منحها لهم الحاكم السابق رياض سلامة، والتي يشتبه باستخدامها لتهريب أموال بعض النافذين إلى الخارج؟ أو هل يمكن أن ننسى امتناعها عن تقديم الداتا المتعلّقة بحسابات رجا سلامة، والتي تتعلّق بوجهة استعمال الارباح المشبوهة التي حققتها شركة فوري، السيّئة الذكر، والتي استفادت من عمولات غير مشروعة من مصرف لبنان؟

ما سبق لم يكن سوى مثالين سريعين. لكن ثمّة لائحة طويلة من الملفّات القضائيّة المعلّقة اليوم، والتي أعاقتها في العديد من المحطات ذرائع السريّة المصرفيّة، التي لجأت إليها المصارف لإخفاء المعلومات ووقف التحقيقات. هذه العراقيل تكاملت طبعًا مع الألاعيب التي حصلت داخل دهاليز قصر العدل نفسه، مثل امتناع القضاء عن تقديم الادعاء، أو تقاذفهم مسؤوليّة التحقيق في الملفّات. كما تكامل ذلك مع تأخير التشكيلات القضائيّة، وهو ما حال دون اكتمال نصاب الهيئة العامّة لمحكمة التمييز. باختصار، كانت المصارف نفسها شريكة في هذه المسارات، بل وكانت المتشبه به الأساسي في بعضها -مثل ملف تهريب الأموال وقروض مصرف لبنان- وهو ما تجاهله خلف في افتتاحيّته.

ومن المهم التنويه إلى أنّ التعديلات الأخيرة على قانون سريّة المصارف، التي وافق عليها مجلس النوّاب في تشرين الأوّل 2022، كانت قد عالجت هذه النقطة، عبر إعطاء القضاء صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة بشكل مباشر. غير أنّ المصارف تمسّكت بتفسير مشوّه لمندرجات هذا التشريع، بشكل يحول دون تطبيقه على الجرائم الماليّة التي حصلت قبل إقراره. بهذا الشكل، ظلّت العراقيل التي تؤخّر سير التحقيقات في الجرائم الماليّة قائمة على حالها.

على المقلب الآخر، يتبرّم خلف من اتساع الاقتصاد النقدي، وكأن هذه الظاهرة جاءت خلال السنوات الماضية لأسباب لا ترتبط بالمصارف نفسها. فاتساع الاقتصاد النقدي، هو الترجمة العمليّة لانعدام الثقة بالمصارف القائمة، وبالنظام المالي الشرعي الموجود. وهذا العامل، ليس سوى نتيجة تأخير الحلول المرفوضة من قبل جمعيّة المصارف، والمطلوبة من قبل المؤسسات الدولية التي يستند خلف إلى “مآخذها”. لقد حاجج خلف، وعدد تحفّظات المؤسسات الدوليّة، من دون أن يلحظ هذا التناقض بين أولويّات اللوبي الذي تقوده جمعيّته، والحلول المنطقيّة التي تطلبها هذه المؤسّسات (ومنها إعادة هيكلة القطاع المصرفي).

شهر العسل مع الحاكم بالإنابة
المسألة الأخيرة التي يمكن ملاحظتها في افتتاحيّة خلف، هي التملّق الذي يبلغ حد الرياء، عند تعداد إنجازات الحاكم بالإنابة، ومساعيه لتفادي إدراج البلاد على اللائحة الرماديّة. وهذا النمط من التزلّف والتقرّب من ناظم القطاع المصرفي، مارسته الجمعيّة سابقًا مع الحاكم السابق رياض سلامة، قبل أن تنقلب عليه بعد أيّام من انتهاء ولايته، لتنتقل إلى التشهير بسياساته الماليّة والنقديّة وطريقته في إدارة المصرف المركزي. شهر العسل مع الحاكم بالإنابة، الذي بدأ بمجرّد وصوله إلى الحاكميّة قبل نحو سنة، هو استكمال لسياسة مهادنة السلطة النقديّة، وربما اتقاء شرّها.
في الخلاصة، من يكتب هذه الافتتاحيّة، يتحدّث بإسم لوبي مسؤول عن إسقاط خطّتين حكوميّتين، بالتكافل والتضامن مع أقطاب المشهد السياسي اللبناني. وهذا التحالف بين الطرفين -الساسة والمصرفيين- مسؤول عن إعاقة دخول لبنان في برنامج صندوق النقد الدولي، وإفشال مسار إعادة هيكلة المصارف، وغيرها من الخطوات التصحيحيّة التي احتاجتها البلاد بعد الأزمة. سيناريو الدخول في القائمة الرماديّة، هو نتيجة هذه الجرائم بالذات، جرائم خطّة الظل.

The post حين تهوّل المصارف بخطر “اللائحة الرماديّة” appeared first on Lebanon Economy.

JOIN US AND FOLO

Telegram

Whatsapp channel

Nabd

Twitter

GOOGLE NEWS

tiktok

Facebook

مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :lebanoneconomy.net بتاريخ:2024-08-21 06:31:10
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

Exit mobile version