في مثل يوم أمس الأحد قبل سنتين، نشر الموقع الرسمي لصندوق النقد بيانه الشهير، الذي أعلن فيه عن توقيع الاتفاق المبدئي مع لبنان. ثمانية شروط، وضعها الاتفاق المبدئي يتوجب تحقيقها من قبل لبنان، كي يُعرض الملف على مجلس الصندوق التنفيذي، ولتحصل البلاد على البرنامج التمويلي المأمول. ومنذ ذلك الوقت، لم يحقّق لبنان الغالبيّة الساحقة من تلك الشروط، التي ظلّت شاهدًا على نوعيّة العراقيل التي حالت دون دخول مسار التعافي المالي.
نص الاتفاق المبدئي وشروطه، بات معلمًا أساسيًا في مسار الأزمة الماليّة اللبنانيّة، للدلالة على ما كان يجب أن يجري، بجمل واضحة وصريحة، وللإشارة إلى ما أطاح بمستقبل البلاد المالي.
في ذكراه الثانية: الاتفاق حيٌ يُرزق
قبل أيّام قليلة من ذكرى توقيع الاتفاق، سرّب البعض لإحدى الصحف المحليّة أنباءً عن اتجاه الصندوق لإلغائه. وهذا تحديدًا ما يتمنّاه كثيرون اليوم، في مراكز النفوذ المالي والمصرفي والمالي.
كثيرون يتمنّون تدمير هذا المَعلم، الذي يذكّر الرأي العام -كل بضعة أشهر- بجرائم حرق الوقت وتأبيد الجلوس في القعر. كثيرون يتمنون أن يُزال من عناوين الصحف هذا التذكير الدائم، بوجود خريطة طريق تنتظر لبنان، لسلوك درب التعافي المالي. لا أحد يجرؤ أن يقولها، لكنّ هناك من يتمنّى أن يصبح الاتفاق المبدئي ذكرى من الماضي. هناك من لا يريد صندوق النقد، ولا الحل الشامل.
غير أنّ رد الصندوق ونفيه سرعان ما أتى عبر جولة وفده يوم الجمعة الماضي، التي شملت رئيس الحكومة ووزير الماليّة. وعلى لسان مديره التنفيذي محمود محي الدين، أكّد الصندوق بوضوح أنّه ليس بصدد إلغاء الاتفاق المبدئي. غير أنّ محي الدين أصرّ، في الوقت نفسه، على الإضاءة على العقبة الأساسيّة التي تحول دون تحوّل الاتفاق المبدئي إلى اتفاق نهائي وبرنامج تمويلي فعلي. وذلك عبر التذكير بأنّ نهوض الاقتصاد المحلّي مستحيل، من دون التشريعات المتعلّقة بإعادة هيكلة المصارف وحل موضوع الودائع بطريقة مستدامة. هذا هو الشرط الأساسي الذي لم يُحقق، في الاتفاق المبدئي.
على هذا النحو، سيبقى الاتفاق المبدئي حيًا يُرزق، بوصفه تعدادًا للخطوات البديهيّة التي يحتاجها لبنان للعبور نحو الاتفاق النهائي، ونحو مسار التعافي المالي أيضًا. هو بشكل من الأشكال، مضبطة اتهام دائمة، تُذكّر اللبنانيين كل يوم بأن المطلوب واضح وجلي، وبأن من ينحر مصالحهم، منذ بدء الانهيار، ليس سوى من يحمل الشعارات النقيضة لكل هذه الحلول. وقد لا يحب ذلك من لا يملك مصلحة في العناوين التي نصّ عليها الاتفاق، لكن الحقيقة هي أنّ الاتفاق المبدئي لم يمت، لكنّه لا يُنفّذ.
في الأصل، ليس من طبيعة عمل الصندوق أن “يقفل الباب” أمام دولة تملك العضويّة فيه. الباب المفتوح، هو الاتفاق المبدئي نفسه، هو خريطة طريق الذهاب نحو الاتفاق النهائي. لكن طبيعة عمل الصندوق لا تسمح له بمنح شهادة الثقة لأي عضو، بقبوله في برنامج تمويلي واتفاق نهائي، بالمجّان ومن دون شروط. العبور نحو البرنامج التمويلي والاتفاق النهائي، يفرض قيام الدولة العضو بالحد الأدنى من الخطوات، التي تكفل انتظامها المالي والنقدي على المدى البعيد. وهذا ما لم يحقّقه لبنان بعد، وقد لا يحققه في القريب العاجل كما يبدو.
المصالح التي تعرقل الاتفاق النهائي
البحث عن مصالح المعرقلين، الذي يمنعون تنفيذ الاتفاق المبدئي، يصبح سهلًا عند قراءة شروط الاتفاق. أبرز الشروط التي لم تُنفّذ حتّى اللحظة، هي تلك المتعلّقة بإقرار استراتيجيّة وتشريع طارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. وتحقيق هذا الشرط، كان يستلزم تحقيق شرط آخر نص عليه الاتفاق أيضًا، وهو تدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرفًا، للوقوف عند حجم أصولها والتزاماتها، ومعرفة وضعيّة كل مصرف على حدة.
مسودّة مشروع قانون إعادة الهيكلة، ما زالت عالقة أمام مجلس الوزراء، بعدما تمكّنت جمعيّة المصارف مؤخرًا من فرض شروطها، عبر منع الحكومة من البدء بمناقشة المشروع. وإسقاط مبدأ إعادة الهيكلة، هو إسقاط لأي محاولة قد تحمّل أصحاب المصارف نصيبهم من خسائر الأزمة، أو لأي مشروع قد يفرض على المصرفيين ضخ رساميل جديدة للحفاظ على ملكيّة مصارفهم.
وكما كان واضحًا من التعليمات المكتوبة التي وجهتها المصارف للوزراء والسياسيين، جاء رفض المشروع احتجاجًا على المعايير والبنود التي تقضي بتمييز الودائع غير المشروعة، وبإعادة فوائض الأرباح التي حصل عليها المصرفيون في الماضي، وبشطب الرساميل المصرفيّة لتحمّل أوّل شريحة من الخسائر. باختصار، لا يمكن أن تتناسب عمليّة إعادة الهيكلة مع مصالح هؤلاء، المتشابكة مع مصالح السياسيين المهيمنين داخل الحكومة ومجلس النوّاب. أمّا عرقلة التدقيق في ميزانيّات المصارف، فهي خطوة مكمّلة لعرقلة إعادة الهيكلة.
سائر الشروط التي لم يتم تنفيذها بالكامل لم تبتعد بدورها عن مصالح النخب السياسيّة والماليّة: تعديل قانون سريّة المصارف ظلّ قاصرًا عن تحقيق جميع شروط الصندوق، بسبب الثغرات التي قيّدت بعض آليّات رفع السريّة المصرفيّة. أمّا الإصلاحات التي ترتبط بالموازنة العامّة، فظلّت أسيرة الشعبويّة التي تحكم مناقشة بنودها داخل المجلس النيابي. ورغم بعض التقدّم في مسار توحيد أسعار الصرف، لم يضع مصرف لبنان الآليّة الشفافة التي يفترض أن تحكم تداول العملات الأجنبيّة، لتعكس سعر الصرف الحر والعائم. أما خطّة إعادة هيكلة الدين العام، فلم تبصر النور بعد، بانتظار بدء المحادثات مع الدائنين.
صندوق النقد والاستثناء اللبناني
في العادة، غالبًا ما يرتبط إسم صندوق النقد بالشروط المؤلمة على المستوى الشعبي، والتي تستخدمها السلطات المحليّة كشمّاعة لتبرير الإجراءات القاسية على مجتمعها.
صندوق النقد، هو الجهة التي تريد أن تفرض انتظام الماليّة العامّة وسعر الصرف، ولو على حساب التقشّف الحاد وتجميد أجور موظفي المؤسسات العامّة وتقليص حجم القطاع العام. هو الجهة التي ستذكّرك بضرورة تعويم سعر الصرف، لضبط ميزان المدفوعات، أو برفع الدعم وترشيده، لتقليص عجز الميزانيّة العامّة والحد من تنامي الدين السيادي. هو بشكل عام، الجهة الخارجيّة التي ستفرض أولويّات التصحيح المالي، والتي تخشى تداعياتها المجتمعات المحليّة.
غير أن لبنان مثّل الاستثناء الواضح، في تاريخ علاقة الصندوق مع الحكومات. فقبل توقيع أي اتفاق مع الصندوق، خسرت العملة المحليّة أكثر من 98% من قيمتها، وجرى تعويم سعر الصرف بشكل فوضوي وسريع. أمّا نفقات الميزانيّة العامّة، فتراجعت بأكثر 88% خلال فترة الأزمة، بينما تحوّلت معظم الإدارات الرسميّة إلى هياكل عظميّة لا تؤدّي أبسط الأدوار المنتظرة منها. وحال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أو التعليم الرسمي والاستشفاء الحكومي، لا يسمح بالحديث عن أي شبكات جديّة للحماية الاجتماعيّة. وخارج إطار المساعدات الاجتماعيّة، لم يتم تنفيذ أي تصحيح جدّي لأجور العاملين في القطاع العام.
ببساطة، وبعد تنفيذ كل ذلك، لم يبقَ للصندوق ما يشترطه على مستوى الإجراءات المؤلمة اجتماعيًا أو معيشيًا. شروط الحل المتبقية، كانت تلك التي تتعارض مع مصالح السياسيين والمصرفيين، وهذا ما نصّ عليه الاتفاق المبدئي، عند الحديث عن إعادة هيكلة المصارف ورفع السريّة المصرفيّة وتوحيد أسعار الصرف. ولأن التضحية بمصالح هذه الفئة ممنوعة، تعذّر تنفيذ الاتفاق حتّى هذه اللحظة.
المصدر
الكاتب:hanay shamout
الموقع : lebanoneconomy.net
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2024-04-08 06:08:36
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي