<
p style=”text-align: justify”>كل انتخابات ولسنا بخير، بين المفاجأة وخيبة الأمل نجد الكثيرين منا محبطين من السياسة الخارجية الأمريكية التي لا تتغير، خصوصاً تجاه منطقتنا. والحقيقة أن السياسة الخارجية الأمريكية تتغير دون أن يكون للانتخابات علاقة بالأمر.
السبب وراء ذلك تعبير ملتبس للبعض وغامض لآخرين وهو “الدولة العميقة”، والحقيقة أن أميركا – كما دول أخرى – تحكمها دولة عميقة، والمفهوم لا يعني مطلق الشر دائماً كما سنوضح في هذا المقال وليس كياناً تجريدياً أو هيولياً أو مطلق السرية.
الدولة العميقة في أميركا تعمل في العلن وتقول للأمريكيين أنا أريد قيادة البلاد -خصوصاً في ملف السياسة الخارجية- بعيداً عن الاحزاب (Non partisan) وفي مرات تقول أريد أن تكون هذه السياسة ثنائية الحزب (Bi-partisan). بكلمات أخرى تقول مؤسسات هذه الدولة للأمريكيين انتخبوا من شئتم، أما نحن فسنمرر السياسات التي نراها مناسبة!
سيقدم هذا المقال مقدمة نظرية عن الدولة العميقة، وسيليه مقالين ضمن سلسلة “في عقل العدو” أحدهما حول التحولات الفكرية للدولة العميقة في أميركا والآخر يشخص شبكة المؤسسات والمصالح التي يعمل لأجلها أو من خلالها ما يسمى بال”الدولة العميقة”.
عصابة اللهو الخفي
للدولة العميقة كمصطلح معنيين متناقضين متوازيين (نظامي وعصاباتي)، من جهة فهي تعني أن القرار الفعلي هو بيد جهة تعمل في الخفاء تحرك الحكومات والدول، ومن جهة أخرى فهو يعني أن هذه الجهة هي تكتل يضم الاجهزة الأمنية في الدولة وقمة رؤوس المال المتزاوجين مع الجريمة المنظمة. هذا النمط من الدولة العميقة تكرر كثيرا في الدول التابعة للولايات المتحدة حيث عبثت وكالة الاستخبارات المركزية في شؤون هذه الدول الداخلية للتحكم في القرار من الخلف وضمان تمرير أجندتها في البلاد وعادة ما تزاوج الأمر مع توظيف عصابات اليمين المتطرف، وقد يكون مصطلح الدولة العميقة كما نعرفه اليوم نتيجة ما عرف ب “فضيحة سوسرلك التركية” عام 1996 حيث كشف حادث سير عن تلك الشبكة التركية التي كانت تديرها ال CIA لعقود (1).
أما النموذج النظامي فهو دولة عميقة من صنف مختلف كليا بالرغم من قدرتها على التحريك من الخلف او في الخفاء إن جاز التعبير، وهي تلك الكتلة السوسيوسياسية القادرة على الحفاظ على المصالح الجيوسياسية لدولة ما برغم التغيرات الجذرية، للتوضيح يمكن استخدام المثال الروسي، حيث لم تغير التقلبات السياسية المتناقضة عبر الحقبات القيصرية والشيوعية و”البوتينية” المصلحة الجيوسياسية الأهم لروسيا الا وهي تأمين الوصول للمياه الدافئة، وكان إهمال هذا المسعى من أهم مؤشرات انحطاط الحقبة اليلتسنية التي قيدت من قبل دولة عميقة مشابهة لتلك المذكورة في فضيحة سوسرلك.
اما بالنسبة لأميركا فالأمر معقد ولا بد من مقدمة نظرية.
ما أعمق الدولة؟!
يعد جون ميرشايمر من أهم المنظرين السياسيين المعاصرين وبالنظرة المجردة تبدو نظريته في كتاب مأساة الدول العظمى ذات وجاهة كبيرة، إلا أنها تحمل عيبا قاتلاً، النظرية تقول أن الهدف الأهم في أولويات الدول هو الحفاظ على الوجود، وأن غياب سلطة دولية عليا تحافظ على حقوق الدول من الاعتداء يجعل من الدول العظمى أمام مسار إجباري لضمان البقاء وهو أن تكون الدولة الأعظم في الكوكب، ويقول أيضاً أن الدول عموماً والعظمى خصوصاً تضع كل السياسات الممكنة لتحقيق هذا الهدف وما يتبعه من غايات فرعية تمثل بكلها المصالح الوطنية، والأهم أن الدول في سعيها هذا هي كيانات عقلانية صرفة، لا تحركها العواطف والاندفاعات أو الأخلاق.
ينتمي ميرشايمر لمدرسة فكرية تسمى الواقعية السياسية، ومنها ينبع تفسيره الميكانيكي البراغماتي للمنظومة الفكرية لدولة مثل أمريكا في سعيها نحو تحقيق “مصالحها الوطنية” يغفل عن الأهم من وراء ذلك: كيف نعرّف المصالح الوطنية والأهم من الذي يحددها؟
المشكلة في مدرسة السياسة الواقعية هي تجهيل الفاعل الحقيقي وتقديمه على أنه المصلحة الوطنية بشكل مجرد، والمسألة تعود إلى تاريخ ونشأة هذه المدرسة، فمولدها هو مولد ما يعرف بالدولة العميقة الأمريكية، وهي بحسب باحثين مثل لورنس شوب(2و3) وآرون غوود(4)، نتاج فشل السلطة التنفيذية الأمريكية في قطف انتصار الحرب العالمية الأولى وسقوط مشروع عصبة الأمم من داخل أمريكا نفسها، وذلك بسبب تضارب مصالح الأوليغارشية الأمريكية في ذلك الحين مع بعضها البعض، ولهذا السبب وبالتعلم من النموذج البريطاني تم خلق وسط لهذه الطبقة تتداول فيه وتتثقف وتتوحد حول مصالحها المشتركة حيال السياسة الخارجية لأميركا لضمان توسيع رأس مالهم ما وراء البحار وسمي بمجلس العلاقات الخارجية، وأول مهمتين أنيبتا لهذا المجلس تمثلتا ب:
1- تحديد المصالح الاقتصادية المشتركة لأصحاب رؤوس الأموال في المستعمرات، وذلك عن طريق دراسات محاسبية دقيقة ومصلحية صماء (5) وتحديد الأوليات بينها وتوحيد رأي الطبقة الأوليغارشية حولها. هنا يمكن تشبيه دوره بدور المصنع في الفكر الماركسي لناحية خلق الوعي الثوري للطبقة، ولكن الحديث هنا يستبدل العمال بالأوليغارشية، ويفرض عليهم تحديد اجابتين: ماذا نريد؟ وما العمل؟ “السؤال الأكثر ثورية” كما يقول فلاديمير لينين!
2- المهمة الأخطر لهذا المجلس هي تحويل الاجابات الى “مصالح وطنية” عن طريق ما يسمى ب”بناء الإجماع”، وهذه مسألة أعقد من البروباغاندا، لأنها بناء طبقي بمعنى أنها لا تذهب مباشرة لاستهداف المواطن العادي، بل تقوم بغمره من أعلى بما تريد له أن يعتبره من المسلمات، لذا فبناء الإجماع يبدأ بالألوليغارشيا والطبقة الثرية النافذة (6) ومن ثم يهبط إلى مراكز التفكير الثانوية (وهي على طبقات) وينقل للسياسيين (وهم على طبقات) ويبث في الاكاديميا والجامعات (وهي على طبقات) وبعدها يبث في الإعلام (وهو على طبقات) وفي النهاية يتم العمل الممنهج لايصالها مباشرة للمواطن العادي بشكل مباشر عن طريق راعي الكنيسة أو رئيس البلدية أو المؤثر الاجتماعي، في النهاية من المهم أن يسمعها المواطن من انسان يعتبره طبيعياً وحقيقياً، وهو ما يسمى بدفق الإعلام على خطوتين.
يعد هنري كيسنجر من أهم منظري هذه المدرسة (7) التي تسمي نفسها بالواقعية، والاسم ليس عبثياً بل هو بحد ذاته يهدف لبناء الإجماع ويخفي حقيقة أن المصالح الوطنية التي تسعى لأجلها الدولة في اميركا “بواقعية” مطلقة هي نتاج فكر وطني عقلاني، بينما في الواقع هي مصالح طبقة ضيقة جداً وواقعيتها تتعلق بهذه الدائرة الصغيرة وليس مصالح الدولة: الكيان العقلاني المجرد الذي يتحدث عنه ميرشايمر (8).
من واقعية ميرشايمر التي تنفي وجود دولة عميقة إلى دراسات شوب ماركسية الطابع لمجلس العلاقات الخارجية وهيمنته على السياسة الأمريكية إضافة الى الجانب التاريخي الذي يضيء عليه آرون غوود تتضح معالم كثيرة لمن يحكم أميركا وسياستها الخارجية بشكل فعلي، لكن لا تزال الصورة غير مكتملة من دون أن نعرج على منظر سقوط الغرب: ايمانويل تود، الذي يجادل أن الدولة العميقة في أميركا هي كيان ضيق، مغلق وسطحي، اجتماعياً ومكانياً (بعض أحياء ثرية في واشنطن تعمل عند عدد من أثرياء نيويورك وكاليفورنيا) وفكريا، ويسميه بال Blob (وهو اسم يحبه أنصار ترامب) إذ يعبر عن كتلة كثيفة صماء لزجة كأنها نتيجة تزاوج أقارب مزمن (9) يصفها تود بعديمة الثقافة ويجادل أن هذا الانغلاق وضيق الأفق والغرور يعبر في الحقيقة الأمر عن دولة سطحية ستقود بالغرب إلى الهاوية.
بكلمات أخرى فإن الدولة العميقة في أميركا من نوع خاص فهي طبقة اثرياء بلا رأس تجمعهم منظومة لترتيب وتنظيم الأولويات فيما يخص مصالحهم الخاصة التي تطال الكوكب والفضاء أيضاً (انظروا لصراع إيلون ماسك وجيف بيزوس على مدارات الأرض)، وبذلك فهي ليست على النموذج النظامي ولا العصاباتي هي شيء هجين ثالث، كانت لديه القدرة في السابق على التفكير المنطقي المجرد وتوظيف الدهاء لتحقيق المصالح المتفق عليها، إلا أن قضائها على أعدائها واحداً تلو الآخر أفقدها رشدها، أما كيف حدث ذلك فهو بحث المقال التالي.
خاتمة
في الحروب يسعى كل طرف لكسر ارادة القتال لدى الخصم، التي تكمن في عقل قيادته، يبدو في الظاهر أن الصهيوني هو من يجلس في كرسي السائق إلا أنه يتلقى تعليماته من الأمريكي الجالس في المقعد الخلفي. وهكذا علينا أن نجعل عقل القيادة الأمريكية يذعن ويفقد إرادته للقتال…البعض يخاف مواجهة حقيقة أننا في حرب ضد أميركا ولكن تذكروا أن كوريا الشمالية وفيتنام هزموا اميركا وبعدهم العراق وأفغانستان وأن اليمن انتصر على تحالف دولي تقوده أميركا ضده بشكل شبه منفرد.
<
p style=”text-align: justify”>
1- شاركت الشبكة المنظمة التركية بقيادة عمليات ارهابية داخل وخارج تركيا، وقد تم تهريب أحد رؤوسها المدانين في أوروبا بشكل عجائبي الى داخل أميركا ثم عاد وخرج واستكمل مسيرته المافيوية والإرهابية حول العالم. قامت وكالة الاستخبارات المركزية بإنشاء شبكات مماثلة لدى الدولة الحليفة وخصوصاً تلك التي كانت مهددة بشعبية التيارات اليسارية بشكل عام، وأشهرها إيطاليا التي تمت من عملية استخبارية عرفت باسم operation gladio.
2- قام الباحث لورنس شووب بنشر كتابين (Imperial Brain trust, The council on foreign relations and the United States foreign Policy) و(Wall street’s think Tank, 2015) يبحثان نشأة وهيمنة مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية يغطيان سوياً فترة ميلاده بعيد الحرب العالمية الأولى وصولاً للعام 2014.
3- نشر الباحث لورانس شووب بحثاً مطولاً يشرح فيه هيمنة المجلس ومؤسساته على إدارة بايدن Monthly Review:
https://monthlyreview.org/2021/05/01/the-council-on-foreign-relations-the-biden-team-and-key-policy-outcomes/
وآخر حول الحرب على غزة ودور مجلس العلاقات الخارجية بها:
https://monthlyreview.org/2024/05/01/the-council-on-foreign-relations-the-israel-lobby-and-the-war-on-gaza/
4- يبحث آرون غوود في كتابه American Exception: Empire and the Deep State, 2022 استثنائية الدولة العميقة الأمريكية وتوأمتها التامة مع الاستعمار والهيمنة.
5-من بين الأبحاث الخمسة الأولى التي أعدها المجلس، أربعة كانت اقتصادية وأهم مواضيعها المواد والمعادن المهمة في شرق آسيا ووضعيتها الجيوسياسية. قرار الدخول في الحرب العالمية الثانية لم يكن له علاقة بحادثة بيرل هاربر، بل كان مسبقاً ومبنياً على دراسة مماثلة كما سيشرح المقال التالي.
6- ليس لكل الأثرياء ذات النفوذ في أميركا وهذا ما تمثله ظاهرة دونالد ترامب، تحدي وصراع يمثل الأثرياء فاقدي النفوذ للحصول على مقعد ثابت في طاولة صنع القرار.
7- في الحقيقة هو تلميذ وربيب ديفيد روكفيلر وبوقه الإعلامي، وهو كان مكروها من الأثرياء الأمريكيين الذين تضررت مصالحهم الخارجية وتناقضت مع مجلس العلاقات الخارجية وكانوا يبغضون استعلاء عليهم خصوصاً لاستخدامه كلمات فرنسية مثل Detaunt عن الردع – غالبيتهم يصنفون من أثرياء رعاة البقر cowboy بمعنى أنهم من الداخل الأمريكي وأثرياء زراعة ونفط محدثو النعمة على عكس أثرياء الساحل الشرقي الذين انتقلوا بثرواتهم إلى الطور المالي ويعدون من قدامي المتمولين Old money أو ما يعرف بملكيي أميركا American Royalty.
8- يعد كتابه عن اللوبي الصهيوني في أميركا مناقضا لنظريته حول الدول العظمى حيث يصور أن أميركا تجر وتتورط في مغامرات مناقضة لمصالحها الوطنية بفعل عمل عدد صغير من المنظمات كما أن ميرشايمر يغسل المسؤولية الأمريكية عن الاجرام الصهيوني، نعم يجلس الصهيوني في مقعد السائق الى أنه سائق وصاحب المركبة الأمريكي يملي توجيهاته من المقعد الخلفي. سيناقش كتاب ميرشايمر حول اللوبي في المقالات اللاحقة الخاصة بعلاقة الكيانين الأمريكي والصهيوني.
9- يمكننا تشبيه داء هذه البلوب بداء الهابسبورغ الناتج عن أجيال من التزاوج الداخلي والذي أفنى فرعها الإسباني.
JOIN US AND FOLO
Telegram
Whatsapp channel
Nabd
GOOGLE NEWS
tiktok
مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :www.almanar.com.lb بتاريخ:2024-10-21 16:21:00
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي