والسؤال عن سكوت فرخان لا يصدر عن آلاف من نشطاء الحركات الحقوقية والسياسية والثقافية الأفرو – أمريكية فقط، بل سارعت إلى طرحه أسبوعية “نيوزويك” الأمريكية مؤخراً، تحت عنوان لم يخل من استفزاز: “صمت لويس فرخان الغريب عن حرب إسرائيل – حماس”.
البعض، في القيادات الأفرو – أمريكية داخل الحزب الديمقراطي خصوصاً، يتنفسون الصعداء إزاء هذا الغياب، إذْ ليس ينقصهم إسهام إضافي (هائل التأثير وغير عادي) في تحريض الشرائح الشابة على الانصراف عن الحزب والانتقاد العلني الحاد لمواقف البيت الأبيض المنحازة إلى جرائم الاحتلال الإسرائيلي. البعض، على ضفة أخرى، لا يتورع عن اتهام فرخان بالتخاذل؛ اتقاء لشر استئناف مجموعات الضغط اليهودية حملاتها السابقة العنيفة التي ألصقت بزعيم “أمة الإسلام” تهمة العداء للسامية. وثمة، إلى هذا، أولئك الذين تشككوا أصلاً في كثير من ركائز “أمة الإسلام” العقائدية والسياسية والأخلاقية، فلم يجدوا في صمته الراهن سوى الدليل الجديد على هواجسهم.
غير أن الأسئلة لا تُطرح، ولا تتكاثر وتتعمق، بسبب عزوف فرخان عن الخوض في ملفات قطاع غزة فحسب؛ بل كذلك لأن الصوت الصارخ الذي يتعالى من شخصية أفرو- أمريكية مرموقة مثل كورنل وست، المفكر والأكاديمي والناشط الحقوقي والناقد الاجتماعي، إنما يكشف صمت فرخان أو يفضحه إذا شاء المرء الدقة وحسن قراءة تصريحات وست المتضامنة بقوة مع أهل غزة والحقوق الفلسطينية إجمالاً، الناقدة للحزب الديمقراطي وقياداته والأفرو- أمريكيين بينهم على نحو مخصص. وإذْ يعتكف فرخان، أو يظهر على استحياء خلال لقاءات مخملية بروتوكولية، فإن وست يبدو هذه الأيام مثل بلدوزر جارف في تظاهرات شعبية تضامنية وعلى وسائل الإعلام الكبرى ومنابر الجامعات والمعاهد.
ولا يُعتب على منتقدي صمت فرخان حين يستعيدون مناسبة شكلت ما يشبه الانعطافة الفارقة في مسار “أمة الإسلام”، في خريف 1995 حين انطلقت في واشنطن مسيرة حاشدة استقطبت بين 600 ألف ومليون مشارك أفرو ـ أمريكي، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، وانطوى برنامجها على دفع السود إلى رص صفوفهم وتنظيم قواهم وتحسين أشكال مشاركتهم في الحياة العامة والانتخابات ومختلف مظاهر السياسة. كان في وسع فرخان، يقول هؤلاء، أن يستغل مرور ذكرى تلك المسيرة، يوم 16 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أي بعد انقضاء 9 أيام على العدوان الإسرائيلي، للإعراب عن التضامن مع غزة وفلسطين.
للمرء هنا، على منوال هذه السطور، أن يمضي أبعد في تشخيص أسباب صمت فرخان؛ اعتماداً على أدائه خلال تلك المسيرة المليونية ذاتها، ومن دون حاجة إلى استعراض مسرد مفصل لخياراته العقائدية والسلوكية منذ أن صعد في الحركة إلى صف القيادة العليا. وإحصائية بسيطة مستمدة من خطبته الشهيرة أمام “مسيرة المليون” تلك، قد تكفي لرسم القسمات العقائدية لاستراتيجيته، الماضية والآتية: لقد لجأ إلى اقتباس الحكمة الماسونية، ثم الأسفار التوراتية (30 مرة)، فالآيات القرآنية (خمس مرات)، وبذلك كان حظ الإسلام هو الأقل في خطبة تبدأ من موسى وداود وسليمان، وتمر بنبوخذ نصر ويسوع ومتى؛ ذلك لأن الراعي الأريب كان يعرف أن نسبة المسلمين السود هي الأقل، وصفوف من لبوا دعوته تضم السود البروتستانت، ربما للمرة الأولى في تاريخ مسيراته التبشيرية؛ الأمر الذي شكل اختراقاً نوعياً لأسيجة “العداء للسامية” التي يتهمه بها خصومه، والتي نادراً ما توجه إلى بروتستانتي طهوري ينتمي إلى الطبعة الأمريكية ـ دون سواها ـ من أفكار مبشر القرون الوسطى الأشهر مارتن لوثر.
وتلك إحصائية تشير إلى السياسة قبل أن تتجمد في العقيدة، ولهذا فإن الخطيب (المفوه تماماً، للإنصاف) أعاد تركيب خطابه الكلاسيكي بعناية فائقة، لأنه هذه المرة اعتزم تشكيل التحالف الذي لن تجد فلسفات “البراءة الأمريكية” مناصاً من التعايش معه ومتابعته ووضعه في الحساب الأدق لمعادلات الحياة اليومية. وليس بغير معنى خاص أنه ضرب ذات اليمين وذات الشمال؛ فاختلط في روعه رجل الأعمال اليهودي الذي استنزف السود في الأربعينيات والخمسينيات، برجل الأعمال العربي والفلسطيني الذي يستنزفهم اليوم، أسوة برجل الأعمال الفيتنامي أو الكوري.
ولقد توفرت دلالة كبرى في أن فرخان خاطب السود قائلاً: “أنتم العبرانيون الحقيقيون، اليهود الحقيقيون! موسى كان أفريقياً، ويسوع كان أفريقياً”! ذاك، للعلم، خطاب طوى صفحة بلال الحبشي والرمز البلالي في إسلام انعتاقي وعتقي مثله مؤذن الرسول الأسود، وتمثله مالكولم إكس ذات يوم؛ وشاركه فيه شاب متحمس مغمور يدعى لويس أوجين ولكوت سليل أسرة كاريبية مهاجرة إلى أمريكا، سوف يهتدي إلى الإسلام ويسمي نفسه لويس إكس، ثم لويس… عبد الفرخان.
مبهج، والحال هذه، أن صمته المتواصل اليوم فضاح في ذاته، فصيح وبليغ بما لا يقبل التمويه والتأويل.
بقلم : صبحي حديدي
القدس العربي
المصدر
الكاتب:
الموقع : www.alalam.ir
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2023-12-05 00:12:52
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي