<
p style=”text-align: justify”>“الغرور خطيئتي المفضلة” من فيلم محامي الشيطان.. من الكبائر التي قد نرتكبها بحق أنفسنا أن نخلط الثقة والفخر بأنفسنا بالغرور، وأن لا نرى العدو على حقيقته فلا نضخمه ولا نقزمه، وأن نقرأه بدقة كما هو، خيرٌ لنا من أن نقرأه من رؤوسنا.
قد أصبح من الجلي اليوم أن العدوين الأمريكي والصهيوني قادا حملة تضليل عميقة تنفي نيتهما توسعة الحرب اقليمياً ضد لبنان، ومع ذلك لا يزال كثيرون من بيننا يقرأون ما يصدر عن المنصات الاعلامية التابعة للأعداء بشكل مباشر، ولا يحاول تفكيك ما وراء الخبر والمعلومة أو بين المعرفة والفهم، فالمعرفة تعني ظاهر المعلومة بينما الفهم يعني تحليل المعلومة والوقوف على حقيقتها، فلا يكفي قراءة نص ما، بل علينا العمل على معرفة خلفياته وأسبابه والمراد منه وحقيقته: المعرفة تعني ماذا الظاهرية بينما الفهم يعني ماذا الحقيقية بل يعني لماذا أيضاً وأحيانا لماذا هي من يوضح لنا ماذا الحقيقية.
سبق أن ضلل العدو كثيرين في الأسابيع الماضية، خصوصاً من خلال موقع أكسيوس المرتبط بأجهزة الاستخبارات الأمريكية والصهيونية (وليس موقعاً تسلل اليه ضباط استخبارات صهاينة كما يقول البعض)، فمثلاً عندما نشر أن مجزرتي الثلاثاء والأربعاء (البيجر واللاسلكي) كانتا خوفاً من كشف العملية، والدراما التي حيكت حول التعتيم على الحليف الأمريكي وكل التفاصيل الغنية التي رميت هنا وهناك لنتلقفها نحن ونغرق فيها، وفي خلفية عقلنا الباطن نسلم للرسالة المبطنة (1) التي مررت بكل سلالة كأمر واقع: المجزرتين عارضتين، والأهم أن كل ذلك عمل صهيوني لا يعرف عنه الأمريكيون الا النزر اليسير. بينما اليوم وبعد أن سبق السيف العذل أصبحنا موقنين أن المجزرتين كانتا عملاً تأسيسياً بنيوياً لتوسعة العدوان ضد لبنان وأن هذا مشروع أمريكي للشرق الأوسط الجديد الذي ينفذه العدو بالنيابة عنها.
مرة أخرى تكرر السيناريو ذاته عن تناول التسريبات للتجسس الأمريكي على التحضيرات الصهيونية للضربة على الجمهورية الاسلامية في إيران (2). الدراما هنا أغرقتنا في تفاصيل الفضيحة حول تجسس الحلفاء على بعضهم، وحول كشف المسرب وضرورة محاسبته، وذروة الدراما كانت في التحليلات الغربية حول تأجيل الضربة لشهر على الأقل لأن الخطط قد فضحت وبالتالي مررت رسالة مبطنة (ليست الوحيدة) وجب أن نسلم بها وهي أن موعد الضربة بعيد عن الناظرين.
تمهيد أم تحذير وفصل ساحات؟
القصد من وراء الاعتداء الصهيوني على الجمهورية الاسلامية في إيران حمّال أوجه، ويمكن تلخيص التفسيرات لمعسكرين:
الأول يرى أن الصهيوني ومن ورائه الأمريكي معني بضربة محدودة تهدف لفصل الساحات للاستفراد بلبنان وفلسطين أو أن الردع الإيراني أو حتى أن الأمريكي استطاع لجم العدوان الصهيوني كي لا يطال المنشآت النفطية والنووية، سواء على خلفية الانتخابات الأمريكية أو على خلفية رفع أسعار النفط (3).
الثاني يرى تكراراً للتضليل بداية العدوان على لبنان، ضربات مجزأة تبني على بعضها البعض، قضم متدرج لقدرات الخصم تمهيداً لعدوان شامل. وليس من مجال لحسم الجدل إلا من خلال سرد حجج الميدان قبالة بعضها البعض.
قبل البدء بحجج الميدان علينا تأكيد أن ما يهمنا هنا هو ما يراه ويدعيه العدو لنفسه، لأن منظوره لواقع الميدان هو ما يؤثر في عملية صنع القرار لديه، بمعزل عن حقيقة واقع الميدان لدى خصمه، وبالطبع ليس واقع الميدان كما نراه نحن.
المعسكر الأول، حجج الميدان والسياسة:
يعتمد المعسكر الأول على عدد من الحجج الميدانية أهمها:
حجم العدوان الصهيوني مقارنة بالتوقعات يوحي بأن العدو لا يريد التصعيد.
صورة الدفاعات الجوية الايرانية وهي تتصدى للهجوم الصهيوني صورة انتصار لإيران وهزيمة أو محدودية لقدرات العدو الهجومية، خصوصاً إذا ما قورنت مشهدية هذا العدوان مع مشهدية عملية “الوعد الصادق 2”.
قبيل توسعة الهجوم على لبنان سادت تحليلات كثيرة تنفي نية العدو لذلك انطلاقاً من ميدان غزة، حيث اعتبر كثيرون أن نتنياهو بالفعل لديه أولوية القضاء على المقاومة فيها وعدم قدرة جيشه على الخوض في ميدانين بشكل مباشر في ذات الوقت. المنطق ذاته الآن يساق ولكن باعتبار لبنان وغزة أولوية لنتنياهو وجيشه ولعدم قدرته لخوض حرباً مباشرة ثلاثية الجبهات، علماً أن توقيت الضربة – من بين أمور اخرى- لا يخدم هذه الحجة.
ويدعم الحجج الميدانية بالسياسة والتحليل كما يلي:
تكرار الأمريكيين من سياسيين ومحللين للجهود الحثيثة التي تقوم بها الادارة الأمريكية للجم العدوان الصهيوني قبل الضربة وبعدها، وخصوصاً تلك التي تحث إيران على عدم الرد وعلى رأسها تصريح بايدن الأخير في هذا الشأن. كل ذلك مرفقاً بالتحليلات التي تؤكد أن مصلحة الأمريكيين بعيدة كل البعد عن فتح مواجهة شاملة مع إيران في المنطقة.
الاعتماد على الرسائل الإيرانية الردعية قبل الضربة ووضعها في وجه مصالح أميركا التقليدية في المنطقة.
عشرات الانتقادات الصهيونية من السياسيين والصهاينة لنتنياهو لكون الضربة أصغر من اللازم، مما يخدم حجة أن الصهيوني مردوع عن توسعة الحرب.
المعسكر الثاني، حجج الميدان والسياسة:
يعتمد المعسكر الثاني على عدد من الحجج الميدانية أهمها:
يعد نشر منظومة الثاد الأمريكية بكلفتها الباهظة والجنود الأمريكيين المئة الذين يشغلونها على أراضي فلسطين المحتلة وما يعنيه ذلك من مخاطرة تجريب هذه المنظومة أمام الخصمين الروسي والصيني، مؤشراً على جدية فرضية المواجهة الشاملة القادمة. يدعم ذلك نقل سرب مقاتلات الإف 16 الأمريكي من ألمانيا الى الأراضي الأردنية عشية العدوان.
التحليلات – المرجحة وغير المثبتة- للمشاركة الأمريكية المباشر في العدوان.
ضرب رادارات منظومتي اس 300 على الجبهة الغربية لإيران وما يعنيه ذلك من انكشاف (جزئي أو كامل) للأجواء الإيرانية أمام العدوين الصهيوني والأمريكي من فوق خوزستان وعيلام، وهي خاصرة رخوة وكبيرة.
ضرب منشآت لتصنيع الوقود الصلب للصواريخ البالستية الايرانية، وهذه الضربة بالذات مؤشر على تخطيط لعدوان طويل الأمد اذا انها لا تؤتي أكلها ميدانيا على المدى القصير.
ويدعم الحجج الميدانية بالسياسة والتحليل كما يلي:
عشرات الانتقادات الصهيونية من السياسيين والصهاينة لنتنياهو لكون الضربة أصغر من اللازم، هذه النقطة حمالة أوجه فكما خدمت فرضية المعسكر الأول فهي هنا تخدم احتمال توسعة الحرب لناحية النوايا والقابلية السياسية.
أن الهجوم مثل مناورة حية هي أقرب ما يمكن من عدوان صهيوني أمريكي شامل على الجمهورية الإسلامية في إيران، يستخدم فيها طيف واسع من تشكيلات الطيران بشكل منسق، وذلك لأن اتساع إيران وجغرافيتها إلى جانب قدراتها العسكرية يشكلان تحدياً جديداً لكل من الأمريكيين والصهاينة.
استطلاع للدفاعات الجوية الايرانية وتحديد نوعيتها واماكنها وفعاليتها (وهنا قد يكون لدى الايرانيين أكثر مما ظهر خلال هذه الجولة وذلك احتسابا للجولات التالية).
تبريد الاستنفار باشعار إيران أن الضربة انتهت وذلك تحضيرا لمواصلة القضم بدون ردود قصوى.
سكرة وسلة الإنجازات الصهيونية، ونشوة الضربات التي يعيشها العدو تحتاج لأن تستمر على نفس الوتيرة، وما يعنيه ذلك في إعادة ولادة للمشروع الصهيوني وإعادة تدشين وظيفيته لدى الأمريكيين كقاعدة عدوان وسيطرة وتوسع في المنطقة.
مصلحة الأمريكيين (3) في توسعة الحرب وهنا يمكن العودة لسلسلة مقالات في عقل العدو لإثبات مصلحة الأمريكيين فيما يعتقدون أنه مشروع الشرق الأوسط الجديد في نسخته المحسنة.
الفرصة التي لن تتكرر(3)، من نفس سلسلة المقالات أيضاً: يرى العدوان الأمريكي والصهيوني أنهما في وضع، تاريخي، عسكري، اجتماعي داخلي، اقتصادي وعسكري، يمثل جملة من الفرص والتهديدات التي لن تتكرر مجدداً لتغيير وجه المنطقة.
التحييد بخدمة القضم: هنا التضليل العميق
أن عددا من الحجج التي يعتمد عليها المعسكر الأول القائل بأن الضربة محدودة، في عمقها تخدم فكرة الضربة التمهيدية التي تقضم القدرات الإيرانية العسكرية وتفتح المجال للعدوان الشامل.
وأهمها حجم الضربة الصغير مقارنة بالتهويل الذي سبقها، ومن ذلك تصريح بلينكن قبل الضربة أن الأمريكيين غير قادرين على السيطرة على العدو الصهيوني وأن الأمور قد تنزلق ليشهد الشرق الأوسط أحداثاً غير مسبوقة منذ مئة عام. أو تلك التي سربت حول نوايا العدو استخدام صواريخ نووية وتحضيراتها للرد الإيراني.
بكلمات أخرى قد يكون كلام الأمريكيين من باب تكبير الخسة لتظهر العدوان الصهيوني التمهيدي أسخف وأضعف مما هو عليه، وبدل ان تكون قد كبحت جماح العدو الصهيوني كما تدعي، تقوم بالواقع بلجم الرد الايراني على هذا العدوان، وهنا يكمن التضليل العميق.
وفي مستوى آخر أبعد مدى قد يكمن التضليل في مكان آخر، هو إشباع الخصم وطمأنته لقدرته الردعية والدفاعية فيسترخي ويستكين بثقة، بينما يتم التحضير لعدوان مستقبلي أكثر تحدياً لقدراته.
هذا تحليل يتمنى المرء أن تثبت عدم صحته في القادم من الأيام، وحتى لحظة كتابة المقال يبدو أن الايرانيون لا يحسنون الظن بنوايا العدو وفيما يرون أنياب الليث بارزةً، فهم يعدون العدة لكسرها.
1- بالنسبة لنظريات بريخت في المسرح فإن وعي المشاهد يكون مغيباً أكثر الأمر كلماً تعايش مع دراما الأحداث وتفاعل عاطفياً معها، هكذا يعطل تفكيره النقدي لما يشاهده ويندمج تماماً ويظن أن كل ما يراه حقيقي وهكذا تمرر الرسائل الضمنية بدون تفكيك ونقد.
2- هناك تاريخ طويل من التجسس المتبادل بين الحليفين الأمريكي والصهيوني، ولم تعد هذه الأمور من الفضائح بالنسبة لأي منهما في السنوات الماضية. أما التسريب فهو مفتعل على شاكلة أوراق باناما التي وظفتها وكالة الاستخبارات المركزية والخارجية الامريكية للضغط على الخصوم وابتزاز الحلفاء في الوقت الذي حاولت تصوريها على انها الجيل الثاني من تسريبات ويكيليكس.
3- سلسلة في عقل العدو، الحلقة الثانية على الرابط، اضغط هنا.
JOIN US AND FOLO
Telegram
Whatsapp channel
Nabd
GOOGLE NEWS
tiktok
مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :www.almanar.com.lb بتاريخ:2024-10-27 23:57:00
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي