أزمة المشروع الصهيوني: الديمغرافيا وحتمية الانهيار
ليس ثًمَّة شكّ في أنّ المشروع الصّهيونيّ حقّق نجاحات كثيرة منذ نشأته، لا سيّما احتلال الأرض الفلسطينيّة بالقوة وطرد أعداد كبيرة من الفِلسطينيين من ديارهم، ووضع الباقين منهم تحت قبضته الإداريّة والعسكريّة الحديديّة. كما نجح المشروع الصهيونيّ في نقل كتلة بشريّة ضخمة استوطنت في هذه البقعة وأسّست بُنية تحتيّة زراعيّة وصناعيّة وعسكريّة، وانتصرت في عدّة حروب ضدّ جيوش الدول العربيّة، وهي إنجازات يمكن إدراجها ضمن خانة تهويد فلسطين جغرافيّا وبشريّا، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه الإنجازات ما كان ليكتب لها النجاح من دون حصول المشروع الصّهيونيّ على الدّعم غير المشروط من التشكيل الحضاريّ والسّياسيّ الغربيّ، وخاصة من الولايات المتحدة التي تقف في الوقت الحاضر على رأس هذا التشكيل.
ولكن رغم كلّ هذه الإنجازات المهمة التي لا يمكن التقليل من شأنها، يردّد أصحاب المشروع الصهيونيّ أنفسهم أنّ مشروعهم يواجه أزمة حقيقيّة، حتى أنّ عبارة “أزمة الصهيونيّة” أصبحت مصطلحًا أساسيًّا في الخطاب السياسيّ والثقافيّ والأكاديميّ، وتحفل العديد من الأبحاث والدراسات الصّهيونيّة بعبارات مثل “صهيونيّة من دون روح صهيونيّة” و”انحسار الصهيونيّة” وصولًا إلى دقّ جرس الإنذار من قِبَل مسؤولي الصف الأول في ” إسرائيل”، من بينهم رئيس الحكومة الحالي والسابق هما بنيامين نتنياهو ونفتالي بينت، وتحذيرهم مما أسموه ” لعنة العقد الثامن” ومن ” خراب الهيكل الثالث”، في إشارة إلى أنّ الكِيان الصّهيونيّ كدولة قد لا يتجاوز العقد الثامن من عمره، لتكون المرة الثالثة حسب رواياتهم، الذي تنهار في ” دولتهم اليهوديّة”، ويُدمّر فيها هيكلهم في ضوء السوابق التاريخية التي يتحدثون عنها في سرديتهم الدينية-التاريخية، والتي تُعيد سبب الخراب والانهيار إلى الشحناء والبغضاء والكراهية والانقسام بين صفوف اليهود.
ثًمّة اتفاق واسع جدًا في الكِيان الصّهيونيّ- وهو اتفاق عابر للاصطفافات السياسيّة والإيديولوجيّة والإثنية التي تشكّل المجتمع الفسيفسائيّ الصّهيونيّ، يشترك فيه المسؤولون والخبراء والباحثون- يفيد بأنّ عناصر الأزمة التي تعصف بالمشروع الصّهيونيّ، واتّباعًا بالكِيان السُّلطويّ الذي أنتجه هي كثيرة، ومن أهمّها: الهُويّة اليهوديّة للدولة، الهُويّة السياسيّة للنظام، التهديد العسكريّ- الأمنيّ؛ وهذه العناصر الثلاثة التي أقامت الحركة الصّهيونيّة دولتها على أساسها، ما هي إلّا انعكاس لمُعضِلات ثلاث واجهها المشروع الصّهيونيّ منذ بداية طريقه ورافقته حتى يومنا هذا، وهي “يهوديّة الدولة” في ظلّ الوجود العربيّ الفلسطينيّ على أرض فلسطين التاريخية بصورة عامة، وضمن الأراضي المحتلة في العام 1948 بصورة خاصة؛ ومُعضِلة العلاقة بين الصّهيونيّة والدِّين اليهوديّ التي تترك بصماتها واضحة على هُويّة النّظام و”ديمقراطيته” جرّاء موازين القوى بين العلمانيين والدِّينيين؛ ومُعضِلة العقيدة الأمنيّة الإسرائيليّة.
غير أنّ ما تجدر الإشارة إليه والوقوف عنده هو الدّور الحاسم والرئيس للعامل الديمغرافيّ ليس في نشوء هذه المُعضِلات فحسب، بل في تبلورها وتفاقهما وحسم مصير الصراع فيما بينها، بحيث أنّ تفاقم الأزمة الحاليّة للمشروع الصّهيونيّ والتّوقّع الأسود لمستقبله تنبع من التغيّر الذي أنتجه اختلال الميزان الديمغرافيّ بين مكونات المجتمع الإسرائيلي وتأثيره السلبيّ جدًا على طبيعة المُعضِلات الثلاث المشار إليها أعلاه، وتحوّلها إلى تحدّيات ومخاطر حقيقيّة، وذلك أنّ ما كان قد حُسم في بداية المشوار الصّهيونيّ- لا سيّما لجهة تحييد شبح الخطر الديمغرافيّ وحسم نتيجة الخلاف بين الصّهيونيّة والدِّين وترسيخ معادلة أمنيّة- استراتيجيّة، عاد إلى دائرة النقاش والخطر في ضوء المتغيّرات الديمغرافيّة والعسكريّة الأمنيّة التي حصلت مع مرور السنين، والتي تفاقمت بصورة خاصة في العقدين الأخيرين، وبلغت ذروتها مع تعرقل مسار التسوية للصراع العربيّ-الصّهيونيّ، وتفجّر التناقضات داخل المجتمع الصّهيونيّ نتيجة تركيبته الهجينة، ونشوء محور المقاومة وما رافقه من إنجازات وتطور في القدرات بما يضع تحدّيًا حقيقيًّا أمام مقولة التفوّق الصّهيونيّ وصولًا إلى عملية ” طوفان الأقصى” بكلّ تبِعاتها وتجلّياتِها ، ولا سيّما مع دخول جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق على خطِّ المواجهة، ومع ثبات الموقف الإيرانيّ في دعم فصائل المقاومة ابتداءً والانخراط المباشر في عملية المواجهة استمرارا.
إنّ الحديث عن أزمة المشروع الصّهيونيّ ليس بجديد، والإضاءة على هذه الأزمة لم تغب يومًا عن جدول الأعمال السياسيّ والاجتماعيّ، ولا عن أجندات مراكز التفكير والأبحاث والدراسات، ولا عن الأوساط الفكريّة والثقافيّة والأكاديميّة، غير أنّ الجديد يكمن في اتساع دائرة هذا الحديث كمًّا ونوعًا، والقلق الشديد الذي يولده في ضوء قناعة الكثيرين في ” إسرائيل” من أنّ هذه الأزمة دخلت مسار” اللا حل”، وأن قطار الانهيار خرج من محطته، وأن اصطدامه بالواقع ما هو إلاّ مسألة وقت وأنّ العامل الديمغرافيّ يمثل الوقود التي يتحكّم بسرعة حركة القطار، وبالتالي بموعد تحطّمه.
– الدكتور عباس اسماعيل
JOIN US AND FOLO
Telegram
Whatsapp channel
Nabd
GOOGLE NEWS
tiktok
مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :www.alalam.ir بتاريخ:2024-04-26 13:04:55