العرب و العالم

الفكر التربوي والتعليمي عند الأئمة الأطهار.. نبذة تاريخية

تاريخيًا، بنى الشيعة رؤاهم التربوية ومناهجهم التعليمية على أساس تصوّرهم العقائدي، حيث دمجوا ما بين الديني والدنيوي، لاعتبارهم أن التربية والتعليم الدينيين قادران على منع الانحراف عن المذهب والشريعة. فتربيتهم ومناهجهم عبارة عن “مجموعة من المفاهيم المترابطة في غطاء فكري واحد، مستندة في مبادئها وقيمها إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة” (سعيد، 1995، صفحة 12).

التطوّر التاريخي في عملية التربية والتعليم عند الأئمة الاطهار

وضع الإمام علي (ع) اللبنة الأولى لركيزة الفكر التربوي عندهم، حيث تربى وتعلّم على يدي رسول الله (ص) الذي قال فيه “أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب” (السيوطي، 1964، صفحة 170)، والتطوّر التاريخي في عملية التربية والتعليم لائمة الشيعة كان على الشكل التالي:

أسس الإمام علي (ع) مدرسة توجيهية في المدينة المنورة استمرت لمدة 24 عامًا بعد وفاة رسول الله (ص)، حيث كان يقوم بتعليم الناس على اختلاف مللهم أحكام الشريعة من حلال وحرام والتدريب على الصلاة، فقد ورد عنه “علّموا صبيانكم الصلاة وخذوهم بها إذا بلغوا ثماني سنوات” (المجلسي، بحار الأنوار، 1980، صفحة 226)، وكذلك اهتمّ بمرحلة الطفولة لما لها من أثر على تكوين الناشئة، وقد جُمع جزء من خطبه ووصاياه ومنهجه التربوي الإسلامي في كتابه المعروف بـ[نهج البلاغة].

المحافظة على النهج الإسلامي

أمّا ولديه، الإمامان الحسن والحسين (ع) فقد كان منهاجهم التربوي يرتبط بالمحافظة على النهج الإسلامي، وذلك إمّا عبر الصّلح لما فيه مصلحة الدين، أو عبر ثورة عاشوراء التي لا يزال صداها يصدح في كافة أنحاء العالم حتى يومنا هذا، فمنهاجها التربوي هو منهاج عملي لكل العصور لنصرة المظلوم على الظالم.

وأكمل الأئمة نشر العلوم وتعاليم الإسلام لا سيما الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) والذي يعتبر المؤسس الثاني من بعد جدّه الإمام علي (ع) للمدرسة الإسلامية الشيعية، وقد جُمع منهاجه التربوي في كتابي رسالة الحقوق والصحيفة السجادية.

وسار ابنه الإمام محمد الباقر (ع) على نهج والده فاعتمد سياسة تربوية أساسها مبدأ التوعية أو ما يمكن اليوم إطلاق مصطلح التبيين عليه، وتميّزت بتنوّع أساليب عرضها، فتارةً جرت بطريقة الحلقات الدراسية، وأخرى بطريقة المناظرات، حيث كان يجتمع حوله المئات من الطلاب.

عهد الإمام الصادق

واستكمل الإمام جعفر الصادق (ع) هذه المدرسة حيث تبلورت على يديه وبلغت ذروة نشاطها، فاتّصفت بالشمولية فهي لم تقتصر على دراسة الفقه والحديث، بل تجاوزت ذلك لتشمل علومًا أخرى مثل الطّب والفلك، وعلم الكيمياء، فكان من أشهر طلابه الكيميائي جابر بن حيان، ومن تلامذته أصحاب المذاهب الأربعة عند أهل السنة إما مباشرةً أو بشكلٍ غير مباشر، وغيرهم من الطلبة، حتى قال أحد أصحاب الإمام الرضا (ع) وهو الحسن بن علي بن زياد الوشاء البجلي “أدركت في هذا المسجد (أي يعني مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ، كلٌ يقول حدّثني جعفر بن محمد [أي الإمام الصادق (ع)]” (البراقي، 1424 هـ، صفحة 466).

وبعد الإمام الصادق (ع) انحسر الدور التربوي لولده الإمام موسى الكاظم (ع) بسبب رقابة العباسيين له، وقضائه لوقت طويل في السجن.

وبعده نشط الإمام علي الرضا (ع) في التربية والتعليم في مدرسة بغداد لمدة ثماني سنوات، قبل أن ينتقل لمدينة مشهد في إيران بسبب ملاحقة العباسيين له، وقد اشتهرت مدرسته بتدوين الأحاديث وتبويبها.

بعد الإمام الرضا (ع)، كانت الحركة العلمية التربوية للأئمة من بعده محمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري (عليهم السلام) محدودة، بسبب التضييق عليهم من حكّام الدولة العباسية من جهة، ووضعهم في الكثير من الأحيان تحت الإقامة الجبرية من جهةٍ أخرى، أو منعهم من التواصل مع الموالين لهم.

الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى

وطبعًا فالإمام المهدي المنتظر (عج)، وهو في غيبته الصغرى كما الكبرى، قائدًا فذًا يتجاوب مع أمته فكرًا وعملاً كما تقتضيه مصلحة الإسلام وتعاليمه، ففي غيبته الصغرى التي امتدّت من 260 هـ حتى وفاة السفير الرابع للإمام عج) في سنة 329 هـ، كان يتواصل مع الناس عبر سفرائه الأربعة، حيث كان يجيب عن كل أسئلتهم، وكان يقوم بتقديم برنامجه التربوي المستند إلى التوجيهات الاجتماعية بناء لتعاليم الإسلام الأصيل.

وفي الغيبة الكبرى التي بدأت في العام 329 هـ ولا تزال حتى يومنا هذا هناك الكثير من الشواهد لدى أناس رأوا الإمام المهدي (عج) في طريق أو في سفر..إلخ حيث كان يقوم بتوجيههم ونصحهم لما ينفعهم ويصلح مجتمعاتهم. وهذا ما يفسّر الحديث الوارد عنه بأن فائدته حال غيبته كالشمس إذا غيبها السحاب (الصدر، 1403 هـ، الصفحات 597-600).

وبعد انتهاء الغيبة الكبرى وظهوره الشريف سيحمل مشعل العلم والمفهوم التربوي القائم على نصرة المظلوم وإحقاق الحق، حيث سيملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا.

وبالتالي فيظهر بأنّ العصر الذهبي للحركة العلمية عند أئمة الشيعة كانت في عصري الإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع)، لأن عصرهما كان مؤاتيًا من الناحيتين الثقافية والسياسية لإظهار علومهما، ولهذا يتضح سبب البزوغ العلمي ووضع الأسس العلمية والفقهية للمذهب الشيعي خاصّةً في عهد الإمام الصادق (ع)، حيث يوصفون الشيعة في العالم أو في لبنان مثلاً بالشيعة الجعفرية، وذلك نسبةً للإمام جعفر الصادق (ع)، أو يسمَّون الإثنا عشرية نسبةً للأئمة الإثني عشر.

الاستراتيجيات والأساليب التربوية

تنوعت طرق واستراتيجيات التربية والتعليم التي اعتمدها الأئمة الإثني عشر والتي يستلهم الشيعة منهم حركتهم وعقائدهم لأنهم كتاب الله الناطق، فكما قال رسول الله (ص) عنهم “إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض” (الحر العاملي، 1414 هـ، صفحة 34).

فاستراتيجياتهم وحركتهم ومنهجهم وحياتهم هي منهج القرآن والدين الإسلامي الأصيل، وبالتالي يجب السير والإقتداء بهم وبهداهم للوصول إلى الحق في الدنيا وجنّة النعيم في الآخرة، فما هي هذه الإستراتيجيات والأساليب والأسس التربوية التاريخية التي اعتمدها أئمة أهل البيت (ع)؟

المناظرة

المناظرة: هي من أهم وسائل واستراتيجيات التعليم والتربية عند الشيعة، حيث ناظر الرسول (ص) أهالي نجران وباهلهم، وكذلك مسار الأئمة عندما كانوا يناظرون الحكّام الظالمين.

ومن أهم المناظرات هي مناظرة السيدة زينب (ع) بعد واقعة عاشوراء مع يزيد بن معاوية في مجلسه، حيث يعتبر خطابها وثيقةً فكرية تربوية تلخّص خلفيات المعركة بين أهل البيت (ع) والأمويين، مع إعطائها استشرافًا للمستقبل “فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا” (المجلسي، بحار الأنوار، 1983، صفحة 135).

فهذه الاستراتيجية التربوية تساهم في الزيادة بالثقة بالنفس عند المتعلم، حيث يعتاد حسن التفكير والإبداع وقوّة الردّ وسرعة البديهة اعتمادًا على البراهين والأدلّة، وعليه فقد تحوّلت المناظرة إلى أسلوب حواري بتأكيد صحّة وأصالة منهج أهل البيت (ع) الذي هو منهج الإسلام الأصيل. ولكن مع التأكيد على أنّ هذه الإستراتيجية لها شرط أساسي لنجاحها والوصول إلى مرادها وهو إظهار الحقّ وذلك عبر قبول الطرف الذي تتم مناظرته للحق أن تبيّن خطؤه (الجباعي العاملي، 1409 هـ، صفحة 145).

اختيار التعلّم والمعلم

اختيار التعلّم والمعلم: من خلال فتح المجال أمام المتعلّمين لاختيار الاختصاص الذي يريدونه والمناسب لميولهم، مع أحقية المتعلم في اختيار المعلّم الذي سيدرس عنده، وهو ما كنا نشهده لاحقًا في اختيار عالم معيّن للتعلّم عنده لدى طلبة الحوزات العلمية.

اعتماد أسلوب الحفظ والفهم: حيث يتمّ التركيز على حفظ حرفيّة الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، مع عدم إغفال فهم المضمون، لأنّ المناظرات والأساليب التبليغية للدعوة الإسلاميّة بحاجة لإنسان متعمّق ويعي مضمون وفحوى وشرح الآيات والأحاديث لكي يكون النقل دقيقًا، ومنتجًا لمعرفةٍ وعلمٍ إسلامي أصيل.

استخدام أسلوب التقويم الشفهي من قبل المعلم: وذلك بهدف قياس مدى اكتساب وفهم المتعلم للمعلومات، حيث كانت عملية الترفيع من مرحلةٍ لأخرى ليست بحاجة لامتحاناتٍ خطيّةٍ بل يتم تقييمها شفهيًا، ويختار بعدها المتعلّمون مادةً جديدةً وأستاذًا بحسب قدراتهم العلمية.

خلاصة

من خلال كل ما تقدّم يظهر المسار التربوي التتابعي لأئمة أهل البيت (ع)، فإنهم “أهل بيت قد زقوا العلم زقا” (الحائري، 1425 هـ، صفحة 96).

وقد استلهم علماء الشيعة اللاحقون من استراتيجياتهم في الدعوة والتربية والتعليم التي تنوّعت بين أساليبٍ عدّة من مناظرة، لإعطاء حرية التعلّم (هذا الطرح التربوي المتقدّم حتّى في القرن الحالي وفي المفاهيم التربوية والتعليمية المعاصرة غير مطبّق، حيث نجد عادةً بأنّ المدارس الحديثة تفرض المواد والمناهج الدراسية والمعلمين فرضًا على المتعلمين دون وجود حقّ الإختيار)، واعتماد الحفظ والتقويم الشفهي، وغيرها من الاستراتيجيات التي تثبّت وتبيّن مفاهيم الدين الإسلامي الأصيل.

المصدر: مركز الأبحاث والدراسات التربوية

————————–

التقارير التي يعاد نشرها من المواقع الأخرى تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع

————————–

الهوامش:

جعفر الحائري. (1425 هـ). بلاغة الإمام علي بن الحسين (ع)، خطب ورسائل وكلمات. قم: دار الحديث.
جلال الدين السيوطي. (1964). تاريخ الخلفاء (الإصدار 2). القاهرة: مطبعة المدني.
حسين البراقي. (1424 هـ). تاريخ الكوفة (الإصدار 1). النجف: مطبعة المكتبة الحيدرية.
زين الدين بن علي الجباعي العاملي. (1409 هـ). منية المريد في آداب المفيد والمستفيد (الإصدار 1). بيروت: المكتب الإسلامي.
محمد الصدر. (1403 هـ). تاريخ الغيبة الصغرى. أصفهان: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي ع.
محمد باقر المجلسي. (1980). بحار الأنوار (الإصدار 2، المجلد 1). بيروت: المركز العربي للأبحاث والتوثيق.
محمد باقر المجلسي. (1983). بحار الأنوار (الإصدار 2، المجلد 45). بيروت: مؤسسة الوفاء.
محمد بن الحسن الحر العاملي. (1414 هـ). وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة (الإصدار 2، المجلد 27). قم: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
محمد سعيد. (1995). دراسات في تاريخ التربية عند المسلمين (الإصدار 2). بيروت: دار بيروت المحروسة.

JOIN US AND FOLO

Telegram

Whatsapp channel

Nabd

Twitter

GOOGLE NEWS

tiktok

Facebook

مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :ar.shafaqna.com
بتاريخ:2024-05-13 04:22:38
الكاتب:Shafaqna1
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من بتوقيت بيروت اخبار لبنان والعالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading