النمو التالي للصدمة وبداية التعافي بعد حدث مأساوي
ربما سمعت عن حالة اضطراب الكرب التالي للصدمة (PTSD)، وهو اضطراب نفسي ينشأ بعد حدث صادم، ويتصف غالبًا بوجود ومضات من الذاكرة لمشاهد تخصّ الحدث مع قلق شديد وأفكار مزعجة، في المقابل فإن الحديث عن النمو التالي للصدمة أقل شيوعًا.
تستطيع الصدمات تحريض استجابة مروّعة ومضنية، لكن في بعض الأحيان قد تحفز حدوث تغييرات إيجابية، حتى أنها قد تشعل شرارة النماء والقوة والمرونة في أفضل الحالات. يحدث النمو التالي للصدمة عندما يستطيع الفرد تحويل الصدمة، والاستفادة من الضيق والشدة لصالحه. يتناول هذا المقال كيفية تحقيق ذلك.
صفات النمو التالي للصدمة
تشرح المختصة في علم النفس السريري الدكتورة ماريان ترينت: «يحدث النمو التالي للصدمة (PTG) عندما يتوصّل المصاب باضطراب الكرب التالي للصدمة بطريقةٍ ما إلى معنىً جديد انطلاقًا من تجاربه، بهدف عيش حياة مختلفة عن حياته قبل الصدمة».
أشارت إحدى الدراسات إلى أن نصف الناجين من الصدمات تقريبًا يمرون بتجربة النمو التالي للصدمة بعد حادث مأساوي.
تقول الدكتورة ترينت: «يطال النمو في هذه التجربة جوانب مثل قوة الشخصية، وتقدير الحياة، والتطلع لإمكانيات جديدة فيها، والعلاقات مع الآخرين، إضافة إلى حدوث تغيّر روحاني … الأمثلة الدالة على النمو التالي للصدمة متعددة ومتنوعة، كتأليف الكتب والتقرب من الإله والقيام بالأعمال الخيرية والكثير غيرها».
بحسب المختص بعلم النفس البيئي ومستشار السلامة النفسية لي تشامبرز فإن النمو التالي للصدمة قد يتظاهر بطرق مختلفة، مثل كشف موهبة أو قدرة دفينة، والعثور على الثقة لمواجهة تحديات جديدة، واكتشاف الشعور بالقوة.
يشرح تشامبرز: «يميل هذا النمو إلى خلقِ مستوىً من التأمل الواعي والامتنان للحياة واللحظة الراهنة، والتركيز على العلاقات التي يجب منحها الأولوية، يحدث ذلك عادةً تجاه العلاقات التي يشعر الفرد بمساندة أصحابها له في الأوقات العصيبة … تشمل النتائج المذكورة غالبًا رغبةً في مساعدة الآخرين ورد الجميل، وتقدير الحياة، والمزيد من الوعي الذاتي والتعاطف تجاه الغير».
النمو التالي للصدمة ووباء كوفيد-19
تضمنت دراسة حديثة منشورة في مجلة Journal of Psychiatry استبيانًا ضم 385 شخصًا، وكشفت الدراسة أن نسبة 88% منهم زعموا اختبار تأثيراتٍ إيجابية ناتجة عن الظروف الصعبة في فترة الوباء، مثل التعليم المنزلي وخسارة الدخل والمخاوف الصحية.
أشار المستجيبون إلى حدوث تحسن إيجابي في العلاقات العائلية على وجه الخصوص، إضافة إلى زيادة تقديرهم للحياة، وأفاد آخرون بأنهم عاشوا تجربةَ نماءٍ روحيّ بسبب الصدمة الناتجة عن الوباء، وتحسنت صحتهم النفسية أيضًا.
طرائق الاستجابة المختلفة للصدمة
يثير وجود النمو التالي للصدمة سؤالًا بديهيًا: لماذا تحفز الصدمة نماء بعض الناس لكنها تحطّم البعض بالمقابل؟
يشير تشامبرز وترينت إلى وجود بعض العوامل التي تؤدي دورًا كبيرًا في ذلك مثل:
- وجود نظام دعمٍ متين (من الأهل والأصدقاء والأشخاص المحيطين بالفرد).
- صفاتٌ شخصية مثل الانفتاح والطلاقة.
- القدرة على تحقيق تكامل بين التجربة الصادمة وحياة الفرد.
- تطوير نظامٍ جديد من المعتقدات بعد تجربة الصدمة.
يقول تشامبرز كذلك: «تتأثر القدرة على إيجاد فائدةٍ من الأحداث الصادمة بعدة متغيرات».
الدعم
إن قوة نظام الدعم لدى الفرد عاملٌ بالغ الأهمية، فبحسب الدراسات يزيد احتمال النهوض من العثرات لدى الذين يملكون شبكة قوية من الأصدقاء وأفراد العائلة الداعمين لهم إضافة إلى مصادر لطلب الرعاية الصحية النفسية.
الشخصية
لعلم النفس دورٌ كذلك، إذ يفسّر تشامبرز: «تشير صفتان نفسيتان إلى احتمالٍ أعلى لحدوث النمو بعد الصدمة لدى الفرد، وهما الطلاقة والانفتاح للتجارب … يسمح الانفتاح للفرد بإعادة النظر في اعتقاداته، ومن المحتمل أن يبادر المنفتحون في بدء الاستجابة وطلب التواصل الاجتماعي بطريقة فاعلة أكثر من غيرهم. قد يؤدي امتلاك صفاتٍ إيجابية دورًا في الأمر كذلك، مثل التفاؤل والتركيز على المستقبل، فذلك يسمح برؤية الجانب الإيجابي الكامن واستغلاله».
تكامل التجربة
بحسب ترينت، يحدث النمو التالي للصدمة عندما يستطيع الفرد الذي تعرّض للصدمة إيجاد التكامل بين هذه التجربة وحياته، وتقول: «يؤدي ذلك إلى تطوير نظامٍ جديد من المعتقدات». بخلاف ذلك قد يبقى الفرد في حالة الصدمة.
تتابع ترينت: «لاحظت في عملي التخصصي مع الناس في علاج الصدمة زيادة احتمال بقاء الفرد عالقًا ضمن الصدمة لدى أولئك الأقل قدرةً على استيعاب تجاربهم ضمن حياتهم».
الفرق بين النمو التالي للصدمة والمرونة
أوضحت ترينت وجوب مرور الفرد بتجربة الكرب التالي للصدمة قبل تجربة النمو التالي للصدمة عمليًا، وتشرح: «على الفرد أن يمر بتجربة أعراض اضطراب الكرب التالي للصدمة أولًا حتى تُصنَّف الحالة على أنها نموٌّ تالٍ للصدمة، فمن غير هذه الأعراض يعود أيّ نموٍّ حاصل إلى مرونة الفرد، أكثر من كونه ناتجًا عن حالة الصدمة على وجه الخصوص».
هل يستطيع أي أحد تحقيق النماء بعد الصدمة؟
هل يستطيع أي أحد الاستفادة من الأحداث التي تسبب الضغط النفسي لبناء تقدير أعمق للحياة؟ يجيب تشامبرز وترينت هذا السؤال ويقولان: نعم.
ينصح كلاهما بطلب خدمات الصحة النفسية المتخصصة مثل:
- إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة (EMDR).
- العلاج النفسي مع التركيز على التعاطف (CFT).
- العلاج المعرفي السلوكي مع التركيز على الصدمة (TF-CBT).
تقول ترينت: «قد يكون الحصول على علاجات الصدمة الفعالة والمرتكزة على الأدلة تجربةً تغيّر حياة الفرد، وقد يكون الفرق الناتج عن التأثيرات التالية للعلاج كالفرق بين الليل والنهار بالنسبة للمتلقي، وذلك بما يخصّ تأدية الأعمال ونقص الأعراض الناتجة عن الصدمة».
تؤكد أيضًا أن هذه الطرائق فعالة لعلاج طيفٍ واسع من الصدمات، ومنها:
- الصدمة الناتجة عن حادثٍ مفرد.
- اضطراب الكرب التالي للصدمة المتعدد المعقد.
- الحداد.
- القلق والاكتئاب المتعلقين بالصدمة.
أضاف تشامبرز توضيحًا مهمًا: «علينا أن نعي اختلاف تأثير الصدمة فينا جميعًا، وألّا نكبت معاناتنا أو نتجاهلها في سعيٍ ساذجٍ للتفاؤل. قد نجد أنفسنا غير قادرين على التعبير عن مشاعرنا السلبية إن قللنا من حجم الصدمة وتأثيرها، وقد تقل فرصتنا بالاستفادة من النمو التالي للصدمة بفعل ذلك».
كيفية تحقيق النماء انطلاقًا من الصدمة
بعد المرور بتجربة صادمة توجد بعض الخطوات التي بالوسع اتخاذها لتتكامل التجربة، ومن الممكن أن يتطور النمو التالي للصدمة استجابةً لها، لكن قد يستغرق الأمر بعض الوقت. وتشمل هذه الخطوات:
- التأمّل في التجارب والمشاعر.
- تعزيز الحس المجتمعي.
- طلب الدعم الصحي النفسي.
من المهم ملاحظة أن بعض التجارب الصادمة يصعب على الفرد التعامل معها وحده، في هذه الحالات يعدّ طلب المساعدة من أحد المختصين المؤهلين أمرًا ضروريًا.
التأمل والتفكير
كخطوةٍ أولى، يقترح تشامبرز التعامل مع المشاعر بكتابتها وتدوينها، ويقول: «إن تأمل ما مررنا به وكيفية تعاملنا مع الأمر، خصوصًا عبر الكتابة، يساعد على زيادة وعينا بالطريقة التي تعاملنا فيها مع التغير الذي أصاب حياتنا بين ليلةٍ وضحاها».
عندما نتأمل ونفكر، فإننا ننمي شعور الامتنان لدينا.
يضيف: «نستطيع أن نأخذ بالحسبان الأشياء التي نقدرها ونمتنّ لوجودها، وإحساسنا بالمعنى في حياتنا كذلك. عندما نفقد بعض الأشياء ونبحث عنها في مصادر أخرى معتمدين على سعة حيلتنا، قد نبدأ برؤية الغنى الذي نملكه في حياتنا أصلًا».
المجتمع
يرى تشامبرز أن تعزيز الحسّ المجتمعي وطلب الدعم من الأشخاص الموثوقين قد يساعد أيضًا، ويشرح ذلك بقوله: «تعاونت المجتمعات لتدعم بعضها في فترة وباء كوفيد-19، ببناء الروابط المتينة ومساعدة الفئات الأكثر ضعفًا. شرح العديد من الأشخاص أن هذا التواصل الناجم عن نية ورغبة جعلهم أكثر تقديرًا للآخرين، إذ شعروا أنهم جزءٌ من تكوينٍ أكبر».
الدعم
بالنسبة لترينت فيتعلق الأمر بطلب الدعم الصحي النفسي، والتواصل مع الأشخاص المقربين أولًا وقبل كل شيء.
متى وكيف تُطلَب المساعدة؟
تشمل أعراض الصدمة بحسب ترينت:
- الحذر المفرط.
- أفكار اقتحامية.
- كوابيس.
- استعادة مشاهد من الحدث في الذاكرة.
- تزايد استهلاك الكحول والعقاقير.
- اضطرابات النوم.
لدى معاناة هذه الأعراض، تنصح ترينت بالخطوات الآتية:
- استشارة الطبيب، أو الاتصال بالخدمات المحلية التي تُعنى بطوارئ الصحة النفسية.
- التحدث مع صديق موثوق أو أحد أفراد العائلة بشأن الحالة.
- النظر في إمكانية تدوين تلك التجارب، إذ أن عملية تدوينها مع كل ما يخصّها قد تساعد في فهم الأحداث ومعالجتها.
- من المفيد تعلّم كيفية تحمل الأفكار والمشاعر المجهِدة لفتراتٍ أطول من الوقت، بدلًا من تنحيتها جانبًا أو استخدام تقنيات التشتيت، إن استخدام تقنيات تحمل الضيق، مثل القيام بتنفس الصندوق لثلاث أو أربع دوراتٍ تنفسية، قد يزيد من القدرة على التعامل مع الأفكار المزعجة.
- قد يكون تعلم تقنيات الاستقرار أو تلقي العلاج النفسي مفيدًا كذلك.
عند الحاجة للمساعدة الفورية
إن كانت الحالة حرجة أو تتضمن التفكير بالانتحار أو أذية الذات، يجب طلب الدعم من خلال:
- الاتصال برقم خدمات الطوارئ المحلية.
- الاتصال بإحدى خطوط الحياة التي تُعنى بالوقاية من الانتحار.
وفي أثناء الانتظار حتى وصول المساعدة، ابقَ برفقة الشخص المعني وحاول إزالة أي أسلحة أو مواد قد تسبب الأذى. وإن لم تكن في المكان ذاته، ابقَ على الهاتف مع الشخص المعنيّ حتى وصول المساعدة.
الخلاصة
يلخص تشامبرز الحديث بقوله: «نستطيع القول بكلماتٍ بسيطة أن فكرة النمو التالي للصدمة تكمن في فهم قدرة الأحداث الصادمة والشاقة والمسببة للضغط النفسي، على خلق فوائد إيجابية. إن هذه الأحداث التي تتنوع من المرض الشديد وفقدان شخصٍ مقرب، إلى حالة صراعٍ حربي أو اعتداء جنسي، هي غالبًا تجارب تستطيع تغيير حياة الفرد، والنمو التالي للصدمة هو النتيجة الإيجابية لتحمّل العبء النفسي الذي تسببه».
إن معرفة قدرة الأحداث الصادمة على تحفيز النمو الإيجابي قد يفضي إلى بثّ الأمل للأفراد القادرين على السيطرة على أعراض الكرب التالي للصدمة.
ومن المهم عمومًا عدم التقليل من حجم تجربة الصدمة، وأخذ الوقت الكافي لفهمها ومعالجتها بطريقة مناسبة، بدل الاستعجال لتحقيق شعورٍ زائف بالتفاؤل.
قد يساعد فعل ذلك بوجود الدعم الملائم في الانتقال إلى حالة أكثر إيجابية مع الوقت.
اقرأ أيضًا:
كيف تتعامل مع الأحداث المأساوية؟
ليست النجاة سببًا يدعو للشعور بالذنب: إليك كيفية التأقلم مع عقدة ذنب الناجي
ترجمة: حاتم نظام
تدقيق: بتول جنيد
مراجعة: محمد حسان عجك
المصدر
الكاتب:حاتم نظام
الموقع : www.ibelieveinsci.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2023-04-10 19:39:30
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي