العرب و العالم

بوتين يعود إلى "إيمانه الصوفي بالتاريخ"

بوتين يعود إلى &Quot;إيمانه الصوفي بالتاريخ&Quot;

<p>بوتين يتحدث إلى ممثلي الجمعيات العامة الوطنية والشباب والمنظمات التطوعية في يوم الوحدة الوطنية بالساحة الحمراء (أ ف ب)</p>

من منظور ما قاله هنري كيسنجر عميد الدبلوماسية الأميركية الأسبق حول “الإيمان الصوفي لبوتين بالتاريخ”، عاد الرئيس الروسي إلى ما سبق وأشار إليه في أكثر من مناسبة، اعتمد فيها على الوثيقة وأضابير التاريخ، ومنها ما يتعلق بالصراع الراهن بين روسيا وأوكرانيا.

وكان بوتين تعمد في هذه المناسبة التاريخية وهي “عيد الوحدة الشعبية”، الذي أقره مع مطلع سنوات ولايته الأولى بديلاً لعيد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية في 1917.

ومن اللافت في هذا الصدد أن بوتين كان قد اختار للحديث في هذه المناسبة مدخل الساحة الحمراء المواجه للبوابة الشرقية لـ”الكرملين”، حيث تمثالي مينين وبوغارسكي مؤسسي فصائل المقاومة الشعبية، اللذين وقفا وراء تشكيلها وقيادتها لطرد الغزاة البولنديين من أراضي بلاده في الرابع من فبراير (شباط) عام 1612، ولذلك مغزاه ودلالاته.

تلك الدلالات التي صارت غير خافية على أحد من متابعي بوتين داخل روسيا وخارجها، ومنهم كيسنجر الذي توقف طويلاً في كلمته أمام منتدى دافوس للأمن الأوروبي في فبراير (شباط) من العام الحالي، عند انحياز الرئيس الروسي إلى التاريخ، الذي لطالما عاد ويعود إليه تبريراً لكل ما يتخذه من خطوات.

نظام عالمي متعدد الأقطاب

بوتين أعلن في دورة منتدى دافوس للأمن الأوروبي في 2007 عن النقاط الرئيسة لاستراتيجية روسيا وتوجهاتها ضد هيمنة عالم القطب الواحد، وضرورة بناء نظام عالمي جديد يستند إلى تعدد الأقطاب.

ومن ذات المنظور حرص الرئيس الروسي على استعادة بعض من ذلك التاريخ في معية نشطاء “الجبهة الشعبية” التي كان وراء تأسيسها في عام 2011، استعداداً لعودته إلى سدة “الكرملين” لولاية ثالثة في عام 2012.

وتأكيداً على توثيق ما يدلي به بوتين من تصريحات، وما يطرحه من معلومات، أقامت موسكو في هذا العام بساحة “مانيج” قريباً من أسوار الكرملين معرضاً للوثائق التاريخية التي تؤكد الأصول المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني تحت عنوان “أوكرانيا وأطلال التاريخ”، كان مناسبة للقاء عدد من علماء روسيا المتخصصين في تاريخ المنطقة الذي يمتد لقرون طويلة خلت.

ولم يخل الأمر بطبيعة الحال من نقاش وجدل بدا في معظمه شديد الانحياز للفكرة الرئيسة التي أعلنها بوتين من وحي وواقع تاريخ الأمسين القريب والبعيد حول الأصول المشتركة لكثير من شعوب المنطقة التي شكلت مع روسيا قوة عالمية متعدة القوميات متباينة الأديان والأعراق، ما كان وراء ظهور ما وصفها بوتين بـ”حضارة فريدة من نوعها، وثقافة شديدة التميز”، قال بوجوب تركيز كل الجهود من أجل “تدريس تاريخهما وتطوراتهما بكل عناية”.

تاريخ الأمس

في اجتماع لاحق حضره بوتين مع نشطاء الجمعية التاريخية الروسية ممن اختاروا تاريخ الأمس موعداً للاحتفال بالذكرى العاشرة لتأسيس هذه الجمعية بمشاركة ممثلي الأديان الرئيسة الكبرى في روسيا، بدا إجماع الحاضرين لافتاً للنظر، لا سيما تجاه ما يتعلق منه بخصوصيات روسيا، وفرادة تاريخها التي تعترف موسكو باعتبارها “جزءاً من الثقافة الأوروبية العظيمة القائمة على المسيحية، بل وجزءاً من الثقافة العالمية”، ما يتطلب الوقوف عنده بكثير من الاهتمام والدراسة، ومحاولة فهم قوانين التطور “انطلاقاً من جوهر التاريخ والمعنى والموضوع”، على حد تعبير الرئيس الروسي.

ذلك كله ما أرادته القيادة الروسية مدخلاً لتنظير توجهاتها اللاحقة التي أعلن عنها المتحدثون في اجتماع الجمعية التاريخية، وتلخصت في ضرورة التوسع بتدريس تاريخ روسيا، والتعريف به اعتباراً من السنوات الأولى للدراسة، وتبسيط معلوماته وأحداثه بما يتناسب مع رياض الأطفال والمدارس الأولية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبمزيد من التفاصيل، حرص المشاركون في اللقاء من علماء التاريخ وهواته، على طرح واستعراض مختلف الرؤى والتوجهات التي اجتمعت كلها حول أن “تاريخ روسيا شديد التعقيد بما يتضمن بين طياته من تناقضات وتعقيدات في كثير من مراحله، ما كان منطلقاً لعدد من محاولات تحريفه، وتشويه كثير من أحداثه، فضلاً عما تعرض له من تشويه بهدف النيل من قدسية الحق والحقيقة في أحيان كثيرة.

ولم يختلف الحضور حول اعتبار الدوائر الغربية وراء كثير مما لحق بتاريخ روسيا وعلاقاتها مع أشقائها وشركائها في الوطن. هنا انبرى الرئيس بوتين ليؤكد أن كل هذه المحاولات لطالما كان مآلها الفشل، حتى وإن طال الزمن.

لم يكن هناك سياق أفضل من هذه اللحظة ليتحول الحديث إلى أوكرانيا وما شهدته وتشهده من تطورات اعتباراً من تسعينيات القرن الماضي بعد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي السابق.

أوكرانيا وانهيار الاتحاد السوفياتي

وعلى الرغم من أنه لا أحد من الحاضرين استعاد حقيقة أن الرئيس الأوكراني الأسبق ليونيد كرافتشوك كان أحد “الفرسان الثلاثة” الذين وقفوا وراء توقيع وثيقة بيلوفجسكويه بوشا في بيلاروس، مع رئيس روسيا بوريس يلتسين، وبيلاروس فياتشيسلاف شوشكيفيتش في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991، أي قبل الإعلان رسمياً عن الانهيار في نهاية ذلك العام.

إلا أن ما قامت به أوكرانيا تحديداً بوصفها ثاني أكبر الجمهوريات السوفياتية السابقة تعداداً وتطوراً كان في صدارة الأسباب الحقيقية للتسريع بوتيرة ذلك الانهيار.

ولعل ما قاله بوتين حول توقف كثيرين من خصوم روسيا عند تاريخها بالدرجة الأولى، بغية النيل من حقائقه ومقدساته، يمكن أن يكون تفسيراً لما سبق وقاله كيسنجر حول “إيمانه الصوفي بالتاريخ” الذي لطالما أجمع المؤرخون والخبراء المتخصصون حول أنه كان ولا يزال “أساس الدولة الروسية وسيادتها”، وهو “ما يثير الغرب ويلقي بالشعب الأوكراني في غياهب كراهية أشقائه من الشعب الروسي”، على حد تعبير الرئيس بوتين.

العودة إلى التاريخ

مرة أخرى يعود بوتين إلى التاريخ، لكن في هذه المرة إلى أحداث أمسه القريب، وما يتعلق منها باضطرابات عام 1917 تاريخ ثورة أكتوبر، وما بعدها إبان سنوات الحرب العالمية الثانية التي يشير كثيرون من المؤرخين في روسيا إلى ما شهدته من تحول في ميول واتجاهات القيادات الأوكرانية، ومنها ستيبان بانديرا الذي انقلب على المقاومة الأوكرانية وانضم إلى النازيين الألمان.

وما دام الشيء بالشيء يذكر، نشير هنا أيضاً إلى ما تقوله القيادة الروسية حول أن “أقطاب القيادة السياسية في أوكرانيا من أتباع بانديرا زعيم النازيين الأوكرانيين في الحرب العالمية الثانية، لا يفكرون إلا في أموالهم التي تتكدس في البنوك الغربية”، وذلك في توقيت تعود فيه موسكو وأجهزتها السياسية والإعلامية إلى “فضح” محاولات التقليل من دور روسيا والاتحاد السوفياتي السابق في تحقيق النصر على الفاشية إبان سنوات الحرب العالمية الثانية.

وذلك في وقت مواكب لاستمرار محاولات السلطات الأوكرانية التي تنسب دائماً كل ما تحقق من انتصارات إبان سنوات هذه الحرب إلى “الجبهة الأوكرانية”، متناسية حقيقة أن تسميتها تخضع لاعتبارات كثيرة تقف فيها جغرافية المكان وظروف الزمان في صدارتها، بدليل اشتراك ممثلي كثير من الشعوب والقوميات في ما قامت به من عمليات وما أحرزته من انتصارات تحاول القيادات الأوكرانية احتكارها.

وهو ما تكاد الأوساط الأوروبية تميل إلى تصديقه، متناسية ما قام به مقاتلو الجبهتين البيلاروسية والكاريلية وغيرهما من “الجبهات العسكرية” التي شاركت في تحرير الأراضي السوفياتية قبل التحول إلى تحرير بلدان شرق أوروبا وحتى تحقيق النصر، ورفع رأيه الاتحاد السوفياتي فوق قبة الرايخستاج في قلب العاصمة الألمانية برلين.

ليس دوماً العلاج الناجع

التركيز على التاريخ ليس دوماً العلاج الناجع، على الرغم من أهميته بكل ما يتضمنه ذلك من مفردات. وعند المفردات نتوقف انطلاقاً مما احتدم من جدل إبان مؤتمر نواب الشعب للاتحاد السوفياتي اعتباراً من دورته الأولى في مايو (أيار) 1989.

ففي هذه الدورة وما بعدها احتدمت الصراعات مع تزعم بلدان البلطيق للميول المطالبة بالانفصال واستهلته إستونيا بإعلانها الاستقلالية الاقتصادية، قبل أن تحل ليتوانيا لاحقة بمطالبتها باستقلالية حزبها الشيوعي، في الوقت الذي لم تجد فيه روسيا ما تقوله، وهي التي كانت الوحيدة التي لم يكن لها حزبها الشيوعي، اعتماداً على وجودها في صدارة قيادات الحزب الشيوعي السوفياتي.

وعلى الرغم من أن جورجيا انتهجت موقفاً مماثلاً فإنها لم تكن مؤثرة نظراً إلى كثير من العوامل ومنها التاريخية والجغرافية، وكذلك تعدادها السكاني الذي لم يكن يتجاوز بضعة ملايين.

وعلى الرغم من أن روسيا كانت أكبر الجمهوريات السوفياتية تعداداً سكانياً ومساحة جغرافية فإن ممثليها التزموا موقف الدفاع، حتى انبري فالنتين راسبوتين أحد أبرز أدباء روسيا المعاصرة آنذاك، إلى إطلاق صرخته التي لا تزال أصداؤها تصم أسماع الملايين من أبناء روسيا حتى اليوم.

وكان راسبوتين فاجأ الآلاف من أعضاء المؤتمر والملايين من مشاهديه بقوله “أما آن لروسيا أن تعلن رغبتها في الانفصال عن الاتحاد السوفياتي؟”، ولم يمض من الزمن كثير حتى تهاوى صرح “الإمبراطورية” على يدى الزعيم الروسي بوريس يلتسين الذي يتهمه كثيرون بالتآمر مع رئيس أوكرانيا الأسبق كراقتشوك للإطاحة بالزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف والإجهاز على ما بقي من الاتحاد السوفياتي.

وتلك كلها ومضات تاريخية، ثمة من يقول بضرورة عدم إغفالها، ولعلنا في ذلك أيضاً نتوقف عند الاسم الرسمي لروسيا، الذي تتباين ترجمته من “الاتحاد الروسي” تارة إلى “روسيا الاتحادية” تارة أخرى، وفي الترجمة الأولى ما يغمط بقية جمهوريات وقوميات الدولة بعضاً من حقوقها.

الرباط المقدس

وبعيداً من “السفسطة” اللغوية، نتوقف لنشير إلى أن روسيا تظل الرباط المقدس الذي يجمع ما يزيد على 150 من الشعوب والأعراق التي لا يتجاوز تعداد بعضها عشرات الألوف مثل داغستان على سبيل المثال التي يبلغ عدد سكانها ما يزيد قليلاً على المليوني نسمة ينتمون إلى ما يزيد على 35 قومية، ممن لا يجدون اليوم ما يجمع بينهم، ويعزز وحدتهم ويربط ما بين ثقافاتهم، سوى اللغة الروسية التي يلتفون مع بقية سكان روسيا وكثير من دول الجوار حول أبجديتها “الكيريلية” (السلافية القديمة)، وهو ما تناولته “اندبندنت عربية” في تقرير سابق من موسكو.

من هنا يعود التاريخ ومعه الجغرافيا ليشكلا معاً الأسس الراسخة التي تربط بين من ارتضى البقاء في أحضان هذا الفضاء الشاسع مترامي الأطراف الذي يجمع ممثلي ما يزيد على 155 قومية يشكلون معاً التركيبة السكانية لأكبر دول العالم ثروة ومساحة.

ذلك كله هو ما يتصدر اليوم اهتمامات القيادة الروسية، وما يحتدم الجدل حوله من جانب شركاء الوطن، السابق والحالي، على وقع استمرار محاولات الدوائر الغربية اللعب على أوتاره.

وإذا كانت موسكو أعلنت أنها تعكف على دراسة ونشر مما خفي عن عمد وسبق إصرار من تاريخ الوطن، إلى أن هناك من ينادي بضرورة أن تنأى الأوساط العلمية بما ستصل إليه من نتائج، عن السقوط في شرك “تسييس” هذه النتائج، بما يمكن أن يحفظ رباط الوطن بعيداً عما أعلنت عنه الإدارة الأميركية صراحة من رغبة في تقسيم روسيا وإطاحة نظامها، استجابة لنداء الرئيس الأميركي جو بايدن الذي قال صراحة “إن هذا الرجل يجب أن يرحل!”، في إشارة مباشرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

subtitle: 
موسكو تحتفل بعيد الوحدة بمعرض "أوكرانيا على أطلال العصر"
publication date: 
السبت, نوفمبر 5, 2022 – 18:30

المصدر
الكاتب:ali.khalil
الموقع : www.independentarabia.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2022-11-05 17:34:32
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من بتوقيت بيروت اخبار لبنان والعالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading