العرب و العالم

دور الإمام علي (ع) في إرساء الحضارة الإسلامية (2)

وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس.

1ـ رجل منافق، مُظهر للإيمان، متصنِّع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرّج، يكذب على رسول الله (صلى الله عليه  آله) متعمدًا، فلو علم الناس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) رآه وسمع منه، ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثُمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكامًا على رقاب الناس، فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم. فهذا أحد الأربعة.

2ـ ورجل سمع من رسول الله شيئًا لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمّد كذبًا فهو في يديه، ويرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنّه كذلك لرفضه.

3ـ ورجل ثالث، سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئًا يأمر به، ثُمّ أنّه نهى عنه، وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء، ثُمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

4ـ وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفًا من الله، وتعظيمًا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام، والمحكم والمتشابه، فوضع كُلّ شيء موضعه.

وقد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان: فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله ـ سبحانه ـ به، ولا ما عنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه، وما قُصد به، وما خرج من أجله.

وليس كُلّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كان يسأله ويستفهمه، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله (عليه السلام) حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلاّ سألته عنه وحفظته منه. فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم).

إنّ هذه الوثيقة العلمية وضعت أسس علمي الرجال والحديث، مستخلصة من واقع الرواة من الصحابة، ومن خلال ما نسميه الآن بالدراسة الميدانية، وهذه الدراسة ألصق بالواقع وأصدق تعبيرًا عنه.

إلى هنا تعرفنا على قيام الإمام علي بالتأسيس لعلم التوحيد (علم العقيدة) ولعلم التشريع (علم الفقه)، ولعلمي الرواية والرواة (علم الحديث وعلم الرجال) وذلك من خلال النماذج والوثائق التي مرّ عرضها.

والآن نعرض لقيامه بتأسيس العلوم المساعدة للعلوم الشرعية، ونأخذ شاهدًا لذلك علم النحو العربي، ذلكم العلم الذي يتدخل وبشكل مباشر في فهم النص الشرعي لأنّه يدرس نظام الجملة العربية ووظيفة الكلمة العربية في منظومة الجملة العربية.

علم النحو العربي

قال السيوطي: (أوّل من رسم للناس النحو أبو الأسود الدؤلي، وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه). وقال البغدادي: (وهو (يعني أبا الأسود) واضع علم النحو بتعليم علي (عليه السلام)، وكان من وجوه شيعته، واستعمله على البصرة بعد ابن عباس، وقبل هذا كان استعمله عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما).

ويرجع السبب لاختيار الإمام علي لأبي الأسود لأنّه (كان رجل أهل البصرة، وكان علوي الرأي)، و(من أكمل الرجل رأيًا وأسدهم عقلاً)،  و(أعلم الناس بكلام العرب)، و(من سادات التابعين… ثقة في حديثه)، و(وهو أفصح الناس)، (وكان الناس لزمنه يرونه شيخ العلم وفقيه الناس وصاحب علي وخليفة عبد الله بن العباس على البصرة).

وأخيرًا: هذه إلمامة تاريخية تشير إلى دور الإمام علي في إرساء أسس الثقافة الإسلامية، تضع أمام من يريد البحث في ذلك والكتابة فيه بشكل مفصل ومطوّل الصور المصغرة لذلك.

ولنختم حديثنا المختصر بكلام ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة في مقدمة شرحه وهو في معرض الإشارة إلى هذا، قال: (وما أقول في رجل تُعزى إليه كُلّ فضيلة، وتنتهي إليه كُلّ فرقة، وتتجاذبه كُلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي جلتها، كُلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وإياه اقتفى، وعلى مثاله احتذى، وقد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ومعلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه (عليه السلام) اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ، فإنّ المعتزلة الذي هم أهل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه (عليه السلام).

و أمّا الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون ـ بآخره ـ إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم و هو علي بن أبي طالب (عليه السلام). وأمّا الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.

ومن العلوم: علم الفقه، وهو (عليه السلام) أصله وأساسه، وكُلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه: أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد (بن الحسن الشيباني) وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة. وأمّا الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن (الشيباني) فيرجع فقهه أيضًا إلى أبي حنيفة.

وأمّا أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضًا إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد (عليه السلام) وقرأ جعفر على أبيه (عليه السلام) وينتهي الأمر إلى علي (عليه السلام).

وأمّا مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي (عليه السلام). وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة. و أمّا فقه الشيعة فرجعوهم إليه ظاهر.

وأيضًا فإنّ فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس، وكلاهما أخذا عن علي (عليه السلام)، أمّا ابن عباس فظاهر، وأمّا عمر فقد عرف كُلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: (لولا علي لهلك عمر)، وقوله: (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)، وقوله: (لا يفتين أحد في المجلس وعلي حاضر)، فقد عرف بهذا الوجه أيضًا انتهاء الفقه إليه.

ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أُخذ، ومنه فُرع، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأنّ أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له وانقطاعه إليه، وأنّه تلميذه وخريجه.. الخ).

مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :ar.shafaqna.com
بتاريخ:2025-03-23 03:35:00
الكاتب:Shafaqna1
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

JOIN US AND FOLO

Telegram

Whatsapp channel

Nabd

Twitter

GOOGLE NEWS

tiktok

Facebook

/a>

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى