اقتصاد

صندوق خداع المودعين والسطو على الموارد العامّة

هذا الأسبوع، أعلنت اللجنة البرلمانيّة المنبثقة عن اللجان المشتركة اقترابها من الوصول إلى صيغة مشتركة، لمسودّة مشروع قانون صندوق “إدارة أصول الدولة”، بعدما عملت خلال ثلاث جلسات متتالية على مناقشة مقترحي التيّار الوطني الحر والقوّات اللبنانيّة بهذا الخصوص. وعلى هامش هذه النقاشات، لم تدخل حركة أمل جديًا حلبة النزاع حول هذا الملف، بعدما قرّرت سحب مقترحها وتفادي خلطه بالنقاش الدائر حول مقترحي التيّار والقوّات. ثمّة استقطاب مسيحي شيعي واضح هنا: بينما يريد “الثنائي المسيحي” إحالة الأصول العامّة إلى إطار إداري جديد، يتمسّك “الثنائي الشيعي” بإبقاء الصيغة بأسرها تحت وصاية وزارة الماليّة.

بين الثنائيّات الطائفيّة، يبقى واضحًا الإجماع على العنصر الأخطر في المشروع: ربط استثمار الأصول بعمليّة رد الودائع، في صيغة قد تحوّل ما يفوق الـ40 مليار دولار من الودائع إلى ديون على الدولة ومرافقها. وسواء أشرفت وزارة الماليّة على عمليّة توزيع امتيازات الاستثمار أو الخصخصة، أو قامت بذلك مؤسسات وصناديق وأُطر إداريّة جديدة، ستكون النتيجة الأكيدة واحدة: خداع المودعين بمشروع لن يعيد أموالهم يومًا، وفتح بازار توزيع المرافق والأصول والإيرادات العامّة بالجملة، بذريعة إعادة الودائع. بالنسبة للسماسرة المحليين، لا معنى للمشروع بأسره، إلا من هذه الزاوية فقط.

استمرار التضليل والخداع
على هذا النحو، تتوقّع اللجنة البرلمانيّة أن تصل في الجلسة الرابعة -أي جلسة الأسبوع المقبل- إلى قواسم ومسودّة مشتركة، يمكن على أساسها متابعة النقاش، والوصول إلى مشروع قانون يُطرح على الهيئة العامّة. وبالتوازي مع تسارع عمل اللجنة للوصول إلى هذا المشروع، طرحت منظمة “كلنا إرداة” هذا الأسبوع ورقة لتناول أبرز الثغرات التي تحيط بالمسودّات المطروحة أمام اللجنة، والتي يجري على أساسها مناقشة المشروع (النص الكامل). أهميّة هذه الورقة، تكمن في كونها أوّل ورقة تتعمّق في دراسة المسودّات المطروحة، وتبحث في مدى جدوى المشروع الذي سترك أثره على ماليّة الدولة لعقود طويلة من الزمن.

قبل تفنيد جدوى إدارة الأصول بالشكل الذي تقترحه المسودّات، تتناول الورقة أولًا الجانب المرتبط بالتعويض على المودعين، والذي يمثّل أحد الحجج التي يتم طرحها لاقتراح المشروع. وفي هذا السياق، تقدّم “كلنا إرادة” أربع ملاحظات يمكن الوقوف عندها:

– ترى الورقة أن الاقتراحات تنطوي على تضليل للمودعين، وتحديدًا من جهة زعمها أنّ “تخصيص جزء من دخل الدولة بشكل مباشر لهم كفيل بالتعويض عن الودائع”. الورقة ترى أنّ تخصيص كل إيرادات الدولة لهذه الغاية، لن يكفي لسد الفجوة إلا بعد خمسة عقود من الزمن.

– الإشكاليّة الثانية، تكمن في أنّ المشروع المطروح سيخصّص الموارد العامّة المُتاحة للتعويض عن أقل من 10% من المودعين، بدلًا من إفادة مجمل اللبنانيين، بينما يعاني حاليًا 90% من المودعين من خسائر يوميّة بسبب تأخّر إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وإشارة الورقة إلى مسألة الـ”10%” من المودعين، تنطلق أساسًا من كفاية الأصول المصرفيّة الموجودة، لسداد كامل التزامات القطاع المترتبة لـ90% من المودعين.

– في الوقت نفسه، تتجه المقترحات الثلاثة إلى مقاربة تلتف على مبدأ الإصلاح والمحاسبة، وتستبدل عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي بأساليب غير مناسبة للتصدّي للأزمة. ما تحاول المسودّات الثلاث فعله هنا، ليس سوى إعفاء المصارف من مسؤوليّتها في التعويض على المودعين، وهو ما يجعل المشروع بأسره بابًا لتكريس ثقافة الإفلات من العقاب.

– أخيرًا، يبقى المشروع الوحيد الكفيل بالتعويض على المودعين هو مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهو ما يفرض أولًا فصل مسار معالجة الخسائر عن مسألة إدارة أصول الدولة اللبنانيّة.

مساهمة الدولة المشروطة
مساهمة الدولة في معالجة الأزمة هي حجّة مطروحة بشكل دائم، من قبل المنادين بمشاريع شبيهة بتلك المطروحة في اللجنة النيابيّة الفرعيّة. وعلى هذا الأساس، تفنّد الورقة بعض الفرضيّات المغلوطة التي يتم الاستناد إليها، تحت عنوان “مسؤوليّة الدولة”. فاقتراحات القوانين تفترض مثلًا أن الدولة مُلتزمة بشكل مباشر للمودعين، بناءً على مضمون المادّة 113 من قانون النقد والتسليف، التي تتحدّث عن تحمّل الدولة لخسائر مصرف لبنان.

إلا أنّ هذه الفرضيّات لا تستند إلى أي أساس قانوني متين. فالمادّة 113 مثلًا، تتحدّث عن خسائر المصرف المركزي الناتجة عن سنة ماليّة معيّنة، وذلك بعد تدقيق ميزانيّات المركزي والمصادقة عليها وفق آليّة واضحة، ولا تتحدّث طبعًا عن تحميل الدولة كامل إلتزامات المصرف المركزي بالنسبة للمصارف. أما الاستناد إلى المادّة 15 من الدستور، التي تنص على احترام الملكيّة الفرديّة، فهو يفترض أنّ ديون الدولة تجاه المصرف المركزي هي فعليًا أموال المودعين نفسها، وهذا استنتاج غير دقيق.

ما يمكن أن نضيفه نحن هنا، لتأكيد ما ورد أعلاه، هو أنّ هناك لغطاً وخلطاً كبيراً بين مسألتي الدين العام وفجوة الخسائر الموجودة في مصرف لبنان. فبينما تراكم السواد الأعظم من دين الدولة للمصرف المركزي بالعملة المحليّة، تراكمت في المقابل خسائر المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة، ونتيجة عمليّات ذات طابع نقدي ومصرفي لا ترتبط بمسألة الدين العام. أمّا دين الـ16.5 مليار دولار، الذي أضافه رياض سلامة على الدولة اللبنانيّة بالعملة الصعبة في أواخر أيّامه، فلا يتجاوز حدود التزوير الصريح في الميزانيّات، وهو ما يُفترض تصحيحه لا الاستناد عليه!

ثم تشير الورقة إلى مسألة هرميّة توزيع الخسائر، أي تحميل المصارف ثم مصرف لبنان أوّل شريحتين من الخسائر المتراكمة، ومن بعدها يمكن مناقشة مساهمة الدولة بما لا يلحق الضرر بوضعيّة الماليّة العامّة، وبقدرة الدولة على تقديم الخدمات العامّة للمواطنين. على هذا الأساس، تأتي هذه الملاحظة كإشارة غير مباشرة لمسألة الشروع بمناقشة مسؤوليّة الدولة، قبل الدخول أولًا في النقاش حول مسؤوليّة المصارف ومصرف لبنان، في سياق عمليّة إعادة الهيكلة.

هيكلة الصناديق المُقترحة
المشكلة الأهم في المشاريع المطروحة حسب الورقة، تبقى خفّتها في مقاربة مسألة إدارة الأصول العامّة. فمشروعي القوّات والتيّار مثلًا، ينصّان على مركزيّة غير مفهومة للقرار، في يد الصندوق أو المؤسسة التي سيتم استحداثها لإدارة الأصول العامّة. وهذا ما خلق مؤسسة تتركّز فيها المخاطر، بما يسمح بفشل استثمارات الدولة في حال حصول خلل إداري واحد داخل هذه المؤسّسة. في جميع الأحوال، يبقى من المهم التذكير أنّه لا يوجد نمط إداري واحد مفيد لاستثمار جميع الأصول العامّة، على النحو المُقترح في المشروعين.

أمّا الأخطر، فهو أنّ تلك المشاريع تعطي الصندوق أو المؤسسة صلاحيّات موسّعة جدًا، تصل إلى حد إمكانيّة إصدار سندات دين جديدة أو خصخصة الأصول الموجودة، وهو ما يزيد من مخاطر السطو على الأموال العامّة من خلال إدارة هذه المؤسسة أو الصندوق. وهذا ما يجعل المشاريع طرحًا للسطو على الإيردات المستقبليّة، بعدما تم السطو على الماضي وخيراته. وفي جميع الحالات، يبقى من الواضح أنّ جميع تلك المشاريع لم تستند إلى أي استراتيجيّات واقعيّة أو دراسات ماليّة، بل ولم تستند حتّى إلى جردة تبيّن قيمة الأصول وفئاتها، لوضع الاستراتيجيّة المناسبة لإدارتها.

على هذا النحو، يمكن القول أنّ الخلاصة الأساسيّة من هذه المطالعة القانونيّة والماليّة الشاملة هي أنّ المطروح لا يتجاوز حدود حفلة التحاصص الشاملة، على ما تبقى من ثروة مجتمعيّة في لبنان، تحت ستار التعويض على المودعين وتفعيل إنتاجيّة المرافق العامّة. الملفت للنظر، هو أنّ النخبة الحاكمة باتت تتطلّع إلى هذا المشروع كباب لمقايضة القوى الدوليّة والإقليميّة، من زاوية الفرص الاستثماريّة والشراكات. ومن هنا، يمكن أن نفهم إشارة النائب إبراهيم كنعان إلى مسألة النقاش مع الاتحاد الأوروبي، حول طبيعة المشروع المنتظر.

The post صندوق خداع المودعين والسطو على الموارد العامّة appeared first on Lebanon Economy.

JOIN US AND FOLO

Telegram

Whatsapp channel

Nabd

Twitter

GOOGLE NEWS

tiktok

Facebook

مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :lebanoneconomy.net بتاريخ:2024-07-27 06:10:09
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من Beiruttime اخبار لبنان والعالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading