غزة.. أكبر من جرائم حرب إنها إبادة جماعية
وقد تعزز هذا بتقرير الأمين العام للأمم المتحدة الخاص بتأسيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة الذي ذكر فيه أن الاتفاقية شكلت جزءاً من القانون العرفي (التقرير رقم S/ 25704 المؤرخ 3 أيار/مايو 1993)، وقد أعاد مجلس الأمن تأكيد ذلك عندما اعتمد التقرير في قراره رقم 827 (5 أيار/ مايو 1993).
تسعى هذه المقالة للمساهمة في البرهنة على أن “إسرائيل” ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية ولا تزال ترتكبها في قطاع غزة حتى قبل الأحداث التي اندلعت عقب العملية النوعية لكتائب عز الدين القسّام (الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”) في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ولا تزال فصول جريمة الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل مستمرة بغطاء من أنظمة الحكم الأميركية/ الأوروبية التي أسست الكيان الإسرائيلي، في تصرف يجعل الدول التي تغطي تلك الجريمة شريكة فيها، ويقتضي القانون الدولي بمحاكمتها مع “إسرائيل” المرتكبة المباشر لجريمة الإبادة الجماعية، علماً بأنه “تُحظر الإبادة الجماعية في أوقات السلم كما في أزمنة الحرب بموجب اتفاقية 1948 الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.”
تعريف الإبادة الجماعية
تُعرّف الإبادة الجماعية بوضوح في مواد من الاتفاقية، مثل المادة 2 التي تنص على أن الأفعال “المرتكبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه”، هي إبادة جماعية، منها: “قتل أعضاء من الجماعة؛ إلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بأعضاء من الجماعة؛ إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛ فرض تدابير تهدف إلى الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أُخرى.”
وثمة تعريف في المادة 3 التي تنص على المعاقبة على الأفعال التالية: “التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية؛ التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية؛ محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية؛ الاشتراك في الإبادة الجماعية.”
ويرد كذلك تعريف الإبادة الجماعية “في المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتمد في روما في تموز/يوليو 1998، ويشمل اختصاص المحكمة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية. وتعتبر جريمة الإبادة الجماعية مختلفة عن مفاهيم المذابح الجماعية وأعمال الاضطهاد والهجمات المتعمدة ضد المدنيين، التي توصف بأنها جرائم ضد الإنسانية.”
وبينما لم توضح التعريفات الرسمية للاتفاقية بعض عناصر ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، فإن “القرارات الصادرة عن المحكمتين الجنائيتين الدوليتين الخاصتين بيوغوسلافيا السابقة ورواندا سمحت بتوضيح البعض منها. إن لم تكن حلت هذه المشاكل.”
وتختلف جريمة الإبادة الجماعية عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية أو جرائم الحرب. ومن العناصر التي تُثبت وقوع الإبادة الجماعية، وفق قرارات المحكمتين الآنفتي الذكر: الدمار البيولوجي الفوري أو اللاحق، والممارسات التي “قد لا تؤدي إلى الوفاة المباشرة ولكنها تقضي في النهاية على الجماعة [….] بهدف الدمار الجزئي أو الكلّي للجماعة” التي يتم إخضاعها لـ “ظروف معيشية صعبة تؤدي إلى اختفائها من الوجود بالإضافة إلى أعمال أُخرى مثل منع الإنجاب داخل الجماعة ونقل الأطفال وإلحاق الأذى البدني والعقلي (بما في ذلك الاغتصاب)؛ الدمار الكلّي أو الجزئي [….] ويمكن تقديم هذا الجزء بمعايير كمية (نسبة عدد الضحايا مقارنة بعدد الجماعة) أو بمعايير نوعية (وضع الضحايا داخل الجماعة) [….] كما يجب إجراء التقييم فيما يخص ما حدث لبقية الجماعة [….]، وفي الحقيقة لا تؤدي بعض أعمال الإبادة إلى موت الأفراد الفوري بل ستجعل من المستحيل بقاء المجموعة على قيد الحياة على المدى القصير أو المتوسط؛ إثبات القصد الواضح للتدمير [….] إذ يجب أن يكون المجرم قد أراد ليس فقط الفعل الإجرامي ولكن أيضاً النتائج النهائية لهذا الفعل والتي تنصبّ على تدمير كل أو جزء من جماعة محددة.”
إبادة غزة جريمة مستمرة
إن الأحداث الأخيرة التي يشهدها قطاع غزة ليست وحدها التي تُعد جريمة إبادة جماعية، بل إن ما مورس منذ أعوام طوال في القطاع كان بمثابة إبادة جماعية أيضاً.
يقول الطبيب الجراح غسان أبو ستة أنه خلال تطوعه في العمل في مستشفيات قطاع غزة، وإجرائه مع زملاء له تحاليل على الأطفال الجرحى، وجد أن أجساد المصابين تعاني نقصاً في النمو، إذ حملت تلك الأجساد “خريطة باثولوجية للحدث السياسي، كما حملت آثار الحصار الطويل على القطاع، فترى ولداً وزنه أقل بكثير مما يجب أن يكون عليه وزن طفل في عمره، ذلك بأن سوء التغذية أدى على مدى أعوام الحصار إلى نقص في النمو.”
تنطبق إذاً الإبادة الجماعية على ما جرى ويجري في قطاع غزة، إذ يخضع الإنسان في غزة “عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميره المادي كلياً أو جزئياً”، مثلما يرد في المادة الثانية من اتفاقية جريمة الإبادة الجماعية، من خلال الحصار وفرض إدخال محدود للمواد الغذائية، فيتأثر جميع السكان بذلك، ولا سيما الأطفال الذين يبقون في قيد الحياة، والذين سوف يعانون من نقص في النمو، ما يعني قتلاً مستقبلياً لجماعة كاملة من البشر، كما عرّفت محكمتا يوغوسلافيا ورواندا الإبادة الجماعية.
وقد أكد مدير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في نيويورك، كريغ مخيبر، في رسالة في 28 تشرين الأول/أكتوبر، إلى مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك: “إننا نشهد الإبادة الجماعية تتكشف أمام أعيننا، ولم تتمكن المنظمة التي نخدمها من إيقافها”، وأضاف أنه عاش في غزة وعمل في مجال حقوق الإنسان للأمم المتحدة في التسعينيات، وكان شاهداً على ما ترتكب إسرائيل فيها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. واتهم الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الأوروبية بتوفير غطاء سياسي ودبلوماسي للفظائع التي ترتكبها “إسرائيل”. وكتب مخيبر أنه بعد أن شهد ما حدث في رواندا، والبوسنة، وللمدنيين الروهينغا في ميانمار، فشلت الأمم المتحدة مراراً وتكراراً في وقف الإبادة الجماعي،. وتابع: “أيها المفوض السامي، نحن نفشل مرة أُخرى” في غزة.
وتأتي رسالة مخيبر في وقت كان ضحايا الإجرام الإسرائيلي بالآلاف، إذ حتى اليوم الـ 25 من الحرب على غزة، كان عدد الشهداء قد ارتفع إلى 8525، بينهم 3542 طفلاً و2187 امرأة، وأكثر من 2000 مفقود ما زالوا تحت الأنقاض، بالإضافة إلى نحو 22 ألف مصاب. ومن أفظع المجازر كانت مجزرة مستشفى المعمداني وسط غزة، في 17 تشرين الأول/أكتوبر، والتي استشهد فيها أكثر من 500 فلسطيني، أغلبيتهم من النساء والأطفال الذين اتخذوا من المستشفى ملجأً آمناً من الغارات الإسرائيلية، ومجزرة مخيم جباليا في 31 تشرين الأول/أكتوبر، والتي راح ضحيتها أكثر من 400 فلسطيني بين شهيد وجريح، وأيضاً أغلبية هؤلاء من الأطفال والنساء.
واللافت أن كل المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين في قطاع غزة استخدمت فيها أنواعاً جديدة من القنابل التي يتسبب بعضها بحروق تصيب 80% من أجساد الشهداء والجرحى، وهي قنابل أميركية الصنع، زُودت “إسرائيل” بها أخيراً.
ولم تكن المجازر التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر مفصولة عن تاريخ طويل من المجازر في القطاع، إذ إنها ارتكبت مجازر في السنوات 2008، و2012، و2014، و2021، بل إن تاريخ إسرائيل شاهد على جرائم إبادة جماعية في أنحاء فلسطين منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين، فضلاً عن طرد السكان من أراضيهم إلى دول مجاورة، ومن قراهم ومدنهم داخل فلسطين إلى قرى ومدن أُخرى، كون نقل السكان عنوة هي جريمة إبادة جماعية، فضلاً عن عشرات المجازر الجماعية، التي ارتكبت في سنة 1948.
لمحاكمة “إسرائيل” وداعميها
تنص “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، ليس فقط على محاكمة مرتكب الجريمة، بل أيضاً مَن يدعم المرتكب ويغطي جريمته، وهي واجبة التطبيق في أيام السلم والحرب على حد سواء.
فالمادة الثالثة من الاتفاقية، وإذ تنص على معاقبة المرتكب، فإنها تعاقب المتآمر والمحرض المباشر والعلني على محاولة ارتكاب أو الاشتراك في ارتكاب الإبادة الجماعية. ووفق المادة الرابعة “يجب معاقبة جميع الأشخاص الذين يرتكبون مثل هذه الأفعال سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو أفراداً، ومهما كان منصب الشخص الرسمي، فلا يمكن أن يستفيد بأي شكل من أشكال الحصانة.” وتنص المادتان 5 و7 على “اتخاذ التدابير التشريعية اللازمة لمعاقبة مرتكبي الجرائم وتلبية طلب التسليم دون شرط نحو الدول المطالبة.” ووفق المادة 8 “يمكن لأي من الأطراف المتعاقدة أن يطلب إلى ‘أجهزة الأمم المتحدة المختصة أن تتخذ، طبقاً لميثاق الأمم المتحدة، ما تراه مناسباً من التدابير لمنع وقمع هذه الأفعال’.”
وبينما تنص المادة 6 من الاتفاقية على إمكان محاكمة المرتكبين أمام المحاكم المحلية المختصة، فإنها تجيز المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ فـ”إسرائيل” ومحاكمها أثبتت فشلها منذ زمن بعيد في متابعة أي قضية تتعلق بمواطنين فلسطينيين، الأمر الذي يُحيل بالضرورة إلى المحكمة الجنائية الدولية. “ولأن جريمة الإبادة الجماعية واحدة من أسوأ الجرائم، يمكن أيضاً إجراء المحاكمة عنها أمام أي محكمة وطنية على أساس مبدأ الاختصاص العالمي، شريطة أن يشتمل النظام الجنائي الوطني للبلد بند الاختصاص بشأن الجرائم المرتكبة من غير الوطنيين خارج التراب الوطني.”
أمّا المتآمرون لارتكاب الإبادة الجماعية، فهم أيضاً ملاحقون وفق “دائرة الاستئناف التابعة للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، في قضية ناهيمانا وآخرين (28 تشرين الثاني/نوفمبر 2007، الفقرات 344 و894 و896)”، إذ وصلت “إلى أن التآمر لارتكاب إبادة جماعية يُعرَّف بأنه ‘اتفاق بين شخصين أو أكثر لارتكاب جريمة إبادة جماعية’.” كما ارتأت في “قضية سيرومبا (12 آذار/مارس 2008، الفقرة 161)، أن ارتكاب إبادة جماعية لا يقتصر على الاقتراب المباشر والبدني وأن الأفعال الأُخرى يمكن أن تشكل مشاركة مباشره في الفعل الجنائي للجريمة، وخصوصاً المعاونة والتحريض، فضلاً عن الإغراء والتحريض المباشر والعلني لارتكاب إبادة جماعية.”
ولن تكون “إسرائيل” وداعموها بمنأى، يوماً ما، عن المحاسبة، إذ “لا تخضع جريمة الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت وقت الحرب أو وقت السلم، للتقادم، كما نصت على ذلك اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية لسنة 1968. ولذلك يمكن الشروع بالإجراءات القضائية مهما كانت الفترة الزمنية التي مضت على ارتكاب الجريمة.”
لقد برهنت دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة، أنها جهات محرضة، إن لم تكن مشتركة مباشرة، في جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وذلك من خلال اعتبار كل ما تقوم به “إسرائيل” بمثابة دفاع عن النفس، على الرغم من أنها دولة احتلال لا ينطبق عليها مبدأ الدفاع عن النفس. فالرئيس الأميركي جو بايدن حلل دم أهل غزة وأعطى “إسرائيل” الضوء الأخضر لارتكاب إبادة جماعية، حتى إنه وافق على مسعى “إسرائيل” لطرد الغزيين من أرضهم إلى صحراء سيناء، وهو الأمر الذي رفضته مصر حتى الآن، وظهر الدور الأميركي المباشر في الإبادة الجماعية من خلال زيارات وزير الخارجية أنتوني بلينكن والدفاع لويد أوستن، وتأكيد جميع مسؤولي وموظفي الإدارة الأميركية تأييدهم لما تقوم به “إسرائيل”، وتزويدها بصنوف من الذخائر المحرمة دولياً وتلك التي لا يجب أن تُستخدم ضد السكان ومساكنهم. ولا يمكن استثناء قادة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا من المسؤولية عبر تأييدهم الجريمة، مباشرة، أو من خلال سكوتهم عنها.
صحيح أن جميع الاتفاقيات والمعاهدات والقرارات الصادرة عن مختلف هيئات الأمم المتحدة، وخصوصاً مجلس الأمن الدولي، قد تجاهلتها “إسرائيل” بدعم من حلفائها في الغرب، إلاّ إنه من الضروري استخدام كل ما هو متاح من آليات لملاحقة مرتكبي الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وكلها جرائم لا تسقط بمرور الوقت، جنباً إلى جنب مع جميع الأدوات النضالية الأُخرى، وفق الظروف الناشئة، كل في حينه.
انيس محسن
المصدر
الكاتب:
الموقع : www.alalam.ir
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2023-11-05 12:11:00
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي