كيف يخزن الدماغ الذكريات؟ – أنا أصدق العلم
تشكّل الذكريات جزءًا أساسيًا في الدماغ، فهي جوهر هويتنا وقصصنا عن حياتنا، فضلًا عن دورها في الحفاظ على سلامتنا وتأميننا من أبسط المخاطر حولنا، فذاكرتنا التي سجلت أن الموقد ساخن هي ما يمنعنا من لمسه أو الاقتراب منه. ولكن، ما هي آلية عمل الدماغ في تخزين الذكريات واسترجاعها؟
بوسعنا القول ببساطة إن الدماغ البشري يعيد هيكلة نفسه بعد كل ذكرى جديدة، ويحدث ذلك بتأثيرات المشابك العصبية أو الفجوات الدقيقة بين خلايا الدماغ.
تتواصل خلايا الدماغ أو الخلايا العصبية فيما بينها باستخدام نظام كهروكيميائي بمنتهى الأناقة، يؤدي التغير في الشحنة الكهربائية في خلية واحدة إلى إطلاق مواد كيميائية تسمى الناقلات العصبية عبر المشابك العصبية، ثمّ تلتقط العصبونات الموجودة على الجانب الآخر المقابل لها الناقلات العصبية من تلك الفجوات لتُحدث تغيرات في شحنتها الكهربائية أيضًا.
قال عالم الأعصاب في جامعة جنوب كاليفورنيا الدكتور دون أرنولد: «وأخيرًا، يحدث تشفير للذكريات في دارات، المشابك العصبية هي المسؤولة عن رسمها وتثبيت وجودها، فهذا ما يحدث في الدماغ: مع كل ذاكرة جديدة تنشأ، توجد دارة جديدة، وبالنتيجة تشفير جديد للذاكرة».
عندما تبدأ إحدى الخلايا العصبية بتنبيه الخلايا الأخرى وتستمر بذلك فإن الاتصال بينهما يصبح أقوى، فيصبح تحفيز بعضها البعض أسهل مع مرور الوقت. ونادرًا عندما لا يحدث اتصال بينها، فإن الرابطة بينهما تضعف وأحيانًا يتوقف التواصل نهائيًا. أي أن الأمر الأساسي لقدرة الدماغ على تخزين الذكريات يُعد بتقوية الروابط بين شبكات الخلايا العصبية.
أين تتجمع الذكريات وتُحفظ؟
تُخزّن ذكرياتنا في عدة مناطق من الدماغ عمومًا، وأهمها الحصين -وهو عمليًا زوج من المناطق التي تغطي أعمق النقاط الموجودة في الدماغ وتلتف على نفسها مثل فرس البحر-، ويعد الحصين مهمًا جدًا لخلق الذاكرة الأولية ودوره مفتاحي، إذ يُرتكز عليه في تحويل الذكريات من الذاكرة قصيرة الأمد إلى الذاكرة طويلة الأمد.
يدوم عمر الذاكرة قصيرة الأمد نحو 20 إلى 30 ثانية فقط قبل أن تتلاشى وتُمحى، فبوسعنا مثلًا تذكّر رقم هاتف جديد طوال الفترة التي استغرقناها للاتصال به فقط، ولكن ما لم نكرره ونتدرب على حفظه مرارًا وتكرارًا، ستتوقف الدوائر العصبية التي شكّلت تلك الذاكرة قصيرة الأمد عن التنبيه معًا، وستُمحى الذاكرة وتختفي. وبالعكس أيضًا، عندما نتدرب على المعلومات ونحاول تذكرها، يسارع الحصين إلى تقوية تلك الدوائر، ومع مرور الوقت تُنقل الذكريات طويلة الأمد إلى القشرة المخية الحديثة التي تُعد الجزء الخارجي الأكثر تجعّدًا من الدماغ والمسؤولة عن تجاربنا الواعية المُدرَكة.
ومع ذلك لا يوجد شيء بسيط في الدماغ، فقد كشفت دراسة نُشرت عام 2017 في مجلة ساينس أن بعض ما يتبقى من الذكريات الطويلة الأمد تبقى عالقةً أيضًا في الحصين.
اللوزة الدماغية منطقة موجودة في دماغ البشر على شكل لوزة تسهم في معالجة المشاعر كشعور الخوف مثلًا، وتؤدي دورًا إضافيًا في عملية التذكّر.
فقد نشر الدكتور أرنولد وزملاؤه الباحثون دراسة في مارس 2024 في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences، وتضمنت تجربة عملية على الأسماك ارتبط فيها الضوء بالإحساس بالألم، وحينها تطورت لدى الأسماك نقاط مشابك عصبية جديدة في جزء واحد من الدماغ يسمى الباليوم أو قشرة المخ، وفقدتها في جزء آخر منها. وقال أرنولد إن قشرة المخ مماثلة للوزة الدماغية، وجزء من قشرة المخ لدى السمكة الذي تقوّت فيه المشابك العصبية في الدراسة امتلئ بالخلايا العصبية المشاركة في معالجة التنبيهات المؤلمة، بينما فُقدت المشابك العصبية بين الخلايا العصبية التي تعالج المنبهات الإيجابية أو المحايدة.
وقال عالم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس الدكتور أفيشيك أديكاري إن الانفعال مكوّن مهم من أجل توليد الذكريات، فالإنسان يتذكر المواقف العاطفية الإيجابية والسلبية أفضل بكثير من تذكّره للمواقف المحايدة أو التي لم تخلق في داخله أية مشاعر، وقد يتعلّق ذلك بغريزة البقاء على قيد الحياة، لأنه من المهم تذكّر الأشياء التي تحدث لنا سواء أكانت جيدة جدًا أو سيئة جدًا، وقال أيضًا إن الدماغ يطلق تراكيز أعلى من بعض النواقل العصبية في القصص والأحداث ذات الانفعالات المبالغة والمؤثرة، ووجود هذه النواقل هو ما يدعم تقوية دوائر الذاكرة في الحصين أكثر.
وتشارك مناطق أخرى أيضًا في عملية التذكّر، مثل العقد العصبية القاعدية والمخيخ، التي تتمحور وظيفتها بالتعامل مع الذاكرة الحركية اللازمة، مثل عزف مقطوعة موسيقية على آلة البيانو.
وتُعد القشرة الأمام جبهية مثالًا آخر إذ تساعد على تشكيل الذاكرة العاملة، وتشارك بالاحتفاظ بالمعلومات عند الحاجة إلى إبقائها والتلاعب بها، كما يحدث عند حل المسائل الرياضية.
يتكون التمثيل المادي للذاكرة من شبكة من الخلايا العصبية التي تنشط مع بعضها، ويُعرف باسم الإنغرام Engram، ويوجد هذا الإنغرام أيضًا في حصين الفأر.
أسرار الذاكرة
يؤدي تكوين الخلايا العصبية الجديدة أيضًا دورًا مهمًا في تخزين الذكريات حتى لدى أدمغة البالغين، وقد ساد اعتقاد بين العلماء حول توقف الدماغ عن إنتاج خلايا عصبية جديدة بعد سن المراهقة، لكن الأبحاث التي أجريت في العقدين السابقين تظهر أن أدمغة البالغين لا تنتج خلايا عصبية جديدة فقط، بل ويعد ذلك أساسًا مهمًا للتعلم والتذكّر، فقد وجدت دراسة أُجريت عام 2019 في مجلة Cell Stem Cell أن الحصين يستمر في توليد خلايا عصبية جديدة حتى لدى الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم الثمانينيات والتسعينيات من العمر.
وقال الدكتور أرنولد إنه من الصعب مراقبة تكوّن الذاكرة ومعالجتها في دماغ الإنسان وهو يؤدي وظائفه الحيوية، والمشابك العصبية دقيقة ومتعددة، فأعدادها تصل حد التريليون خلية في دماغ الإنسان البالغ، لذا من الصعب جدًا إجراء تصوير خارج سطح الدماغ، إضافةً إلى الحاجة إلى طرق التصوير لأن تكون قادرة على تجنب التداخل في وظيفة الدماغ، لكن التكنولوجيا الحديثة تتيح الوصول إلى اكتشافات جديدة.
وكمثال على ذلك، أجروا تجربة التأمّل والنظر إلى دماغ سمكة زيبرا بينما تتعرف على ربط الضوء الوامض بإحساس مزعج وبغيض، لذا قام الدكتور أرنولد وزملاؤه بتعديل جينوم السمكة بشكل يمكّن من عرض البروتينات المتألقة على المشابك العصبية الخاصة بها، فيستطيع الباحثون بعد ذلك استخدام مجهر متخصص لالتقاط الصور لهذه المشابك العصبية ومراقبتها من أجل التغيير.
يعد فهم آلية عمل الذاكرة أمرًا مهمًا بغية التطلّع للوصول إلى علاج لأمراض الذاكرة مثل مرض ألزهايمر الذي يتسبب بفقدانها، وكذلك قد يساعدنا فهم الميزات الغريبة للذاكرة على تحسين عملية التذكّر، فمثلًا لا يشارك الحصين في تثبيت الذكريات وتعزيز التذكر فقط، بل ويساعد على اجتياز الأماكن والتنقل فيما بينها، وهذا أمر منطقي ومعقول، نظرًا إلى أهمية تذكر المكان الذي نحن فيه وأين كنا عندما جربنا التجوّل فيه.
وتذكر عشرات الآلاف من الأرقام من باي يُعد من الأمثلة المذهلة للأشخاص الذين حققوا أعمالًا مدهشة بالتذكّر، فغالبًا ما يستعينون بقدرات الذاكرة المكانية للحصين لتحقيق ذلك. إذ يربطون ذهنيًا كل بند يريدون تذكره بموقع في مكان تخيلي، وهذه حيلة تسمى هيكل الذاكرة، وبتصوير هذا المكان في الذهن بإمكان الشخص الذي يتبع هذه التقنية أن يتذكر كميات كبيرة من المعلومات.
قال أديكاري: «إنه أمر عجيب جدًا، لكن السبب وراء نجاحه أن الحصين جيد بفعل بذلك وخاصة برسم خرائط الطرق المكانية -مهما توسّعت في امتدادها- وترتيبها بانتظام أيضًا».
اقرأ أيضًا:
اكتشاف نوع جديد من الخلايا العصبية يلقي الضوء على تشكل الذكريات
ترجمة: رغد شاهين
تدقيق: محمد حسان عجك
مراجعة: لبنى حمزة
JOIN US AND FOLO
Telegram
Whatsapp channel
Nabd
GOOGLE NEWS
tiktok
مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :www.ibelieveinsci.com بتاريخ:2024-11-26 20:03:00
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي