مقاومة المضادات الحيوية أصبحت واقعًا، وهكذا علينا مواجهتها
تُمثل المضادات الحيوية الإنجاز الأعظم في الطب الحديث. قدمت هذه الفئة المهمة من الأدوية خلال القرن العشرين الحماية من العدوى التي كانت مميتة سابقًا، وغيّرت المشهد والسبل العلاجية.
مع هذا، يمثل تزايد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية تهديدًا لنا، وتحديًا مهمًا لأنظمة الرعاية الصحية مستقبلًا. لفهم آلية مكافحة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، يجب أولًا أن نفهم كيف اكتُشفت المضادات الحيوية، وكيف أدى الاستخدام الخاطئ لها إلى الظروف الراهنة.
بداية المضادات الحيوية:
عالج البشر الأمراض المُعدية باستخدام خلاصات النباتات والعفن آلاف السنين. مثلًا، عام 1550 قبل الميلاد، شرح إيبيرس بابيرس كيفية استخدام الخبز المتعفن والتراب علاجًا للجروح. واستعمل القدماء في كل من الصين واليونان وصربيا الخبز المتعفن للعلاج. كانت الآثار إيجابية لدى كثير من المرضى، لكن ظل الشفاء الكامل أمرًا غير مؤكد. لكن في أوائل القرن العشرين، تغير الأمر كثيرًا.
في مطلع القرن، طور الطبيب بول إيرليش أول مضاد حيوي حديث، وهو أرسفينامين -أو سالفارسان- المستخدم لعلاج الزهري، وهو أول من صاغ مصطلح «العلاج الكيميائي». سابقًا، عولج الزهري باستخدام المعادن الثقيلة مثل الزئبق والبزموت. مثّل اكتشاف فعالية الأرسفينامين «الرصاصة السحرية» التي كان يبحث عنها إيرليش.
اسُتخدمت هذه المادة مقترنةً مع بعض المعادن الثقيلة. وواصل الباحثون إجراء التجارب على أشكال مختلفة من المادة حتى اكتشفوا مركب الأوكسوفينارزين النشط -عُرف أيضًا باسم مافارزين- في الثلاثينيات، وقد أصبح علاجًا معياريًا لداء الزهري في أواخر الأربعينيات.
لكن التطور الأعظم في تاريخ المضادات الحيوية حدث في أواخر العشرينيات، ومن المثير للدهشة أن اكتشافًا بهذه الأهمية حدث بمحض الصدفة.
بعد عودته من رحلة عائلية عام 1928، لاحظ الطبيب ألكسندر فليمينغ تأثير العفن على طبق بتري يحوي جراثيم المكورات العنقودية لم يغلقه على نحو سليم. لاحظ فليمينغ بقعًا محيطة بالعفن لم تستطع البكتيريا الوصول إليها والنمو فيها. أدرك حينها أن العفن يفرز مادة كيميائية آلية للدفاع عن نفسه تقتل البكتيريا، وهو ما سُمي البنسلين.
نشر فليمينغ اكتشافه عام 1929، لكنه لم يستطع استخلاص المركب بمفرده. على مر العقد التالي، عمل فليمينغ على ذلك بمساعدة عدة أشخاص في أمريكا وبريطانيا؛ لعزل البنسلين لأغراض علاجية.
بحلول أوائل الأربعينيات، كاد فليمينغ أن يفقد الأمل، لولا أن نشر فريق من الباحثين في جامعة أوكسفورد بقيادة هاورد فلوري وإيرنست تشين ورقة بحثية تصف عملية استخلاص البنسلين وتكثيفه. أنتجت العملية في البداية كميات ضئيلة من المركب، لكن مثّل ذلك خطوة مهمة. بحلول عام 1945، كان البنسلين يُصنع بكميات كبيرة ويُوزع في أنحاء العالم، خصوصًا للجنود في الحرب العالمية الثانية.
كان ذلك بداية العصر الذهبي للمضادات الحيوية، من الأربعينيات حتى الستينيات، إذ شهدت تلك الفترة اكتشاف عقاقير أخرى ساهمت في مكافحة الجراثيم. نحو نصف الأدوية المُستخدمة حاليًا يرجع اكتشافها إلى تلك الحقبة، يشمل ذلك الستريبتومايسين والتتراسيكلين والإريثرومايسين.
انتشرت حينها ادعاءات بإمكانية القضاء على الأمراض المُعدية نهائيًا، إذ مثّلت المضادات الحيوية أملًا قويًا جدًا. سلّطت الادعاءات الضوء على الحماس والتفاؤل بقوة المضادات الحيوية في مقاومة الأمراض، لكن لم يكن ذلك دقيقًا للأسف.
نهاية العصر الذهبي:
أدى نجاح المضادات الحيوية في مقاومة الأمراض المعدية إلى انهيارها في نهاية المطاف، إذ أدى الاستعمال المتزايد للمضادات الحيوية لدى البشر، واستخداماتها غير العلاجية على الحيوانات -محفزًا للنمو- إلى تزايد العوامل الممرضة المقاومة للمضادات الحيوية. ما زالت هذه المعركة ضد الجراثيم المنيعة قائمة، ولم يعد انتصارنا فيها مضمونًا.
البكتيريا كائنات كثيرة العدد، وتتسم بمعدل مرتفع لظهور الطفرات العشوائية طبيعيًا، ما يمنحها القدرة على التكيف جينيًا. بواسطة الطفرات والانتقاء الطبيعي، تستطيع البكتيريا تطوير طرق لمقاومة المواد القاتلة. وأدى الاستخدام المتزايد غير الواعي للمضادات الحيوية إلى التعجيل بظهور هذه الطفرات ومن ثم التكيف. تستخدم البكتيريا عدة آليات أخرى أيضًا للغرض ذاته.
تموت العضيات الضعيفة عند تعرض البكتيريا للمضادات الحيوية، ما يُمكّن البكتيريا الناجية القوية من نقل القدرة على مقاومة المضادات الحيوية إلى الأجيال اللاحقة. تستطيع البكتيريا أيضًا تبديل المواد الجينية الخاصة بها مع جراثيم أخرى، ما يُعرف بالتحويل الجيني. يُمثل ذلك محركًا أساسيًا في التطور الجرثومي، ويعني أن البكتيريا تستطيع تمرير القدرة على مقاومة المضادات الحيوية إلى البكتيريا الأخرى.
ما يُثير القلق أيضًا هو قدرة البكتيريا على التكاثر السريع، إذ تستطيع في بعض الحالات أن تُضاعف عددها في غضون 20 دقيقة.
تدفع قدرة البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية منظمات الرعاية الصحية إلى تطوير علاجات جديدة. تعود معظم المضادات الحيوية المُتاحة حاليًا إلى فترة العصر الذهبي. مع ذلك تظل وسائلنا الطبية قديمة، إضافةً إلى عدم تطوير أي بدائل لها. يُفسر ذلك خطورة سلالات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
كيف يمكن محاربة ذلك؟
يعمل العلماء حاليًا على اكتشاف مجموعة واسعة من الأدوية المُستخدمة في مقاومة الأمراض وعلاجها. عادةً، يوجد عند البكتيريا ظاهرة تُسمى «استشعار النصاب»، وهي تُعد شبكة اتصال بين البكتيريا تسمح لها بزيادة نموها وإفراز مواد معينة. تعمل الأدوية الجديدة بطريقة تُسمى «تخميد النصاب»، ما يُعطل قدرة البكتيريا على تنسيق السلوكيات الجماعية وإنتاج عوامل الفوعة والضرر. تصبح الميكروبات أقل خطرًا وأكثر عرضةً للاستهداف من المضادات الحيوية.
من الحلول الأخرى استخدام عاثيات البكتيريا -الفيروسات قاتلة البكتيريا- لمكافحة السلالات المقاومة للمضادات الحيوية، ما يُسمى العلاج بالعاثيات. بدأ استخدام هذه الطريقة منذ نحو قرن، لكنها تُستخدم الآن بجدية أكثر.
أيضًا يُستخدم العلاج المناعي الذي أحدث من قبل ثورة في علاج السرطان، إذ تُزال الكريات البيض أو تُعاد برمجتها لتكافح السرطان، ما يُفيد في مكافحة الأمراض دون تثبيط الجهاز المناعي للمريض، ويُشبه ذلك العلاج الكيميائي في عمله. تُستخدم الطريقة ذاتها ضد البكتيريا للحد من تطور مقاومة المضادات الحيوية، باستهداف موضع الإصابة مدة محددة، ما يسمح للبكتيريا بوقت أقل لتطوير مقاومة للمضادات الحيوية.
ما سبق بضعة أمثلة على خيارات العلاج المُحتملة مستقبلًا، لكنها يجب ألا تطغى على طرق العلاج الممكنة حاليًا. لا يقتصر الكفاح ضد الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية على العلماء في المخابر. لكل منا دور في كيفية التعامل مع الأمراض، وتنشئ منظمة الصحة العالمية الموارد لشرح آلية ذلك.
تتضمن طرق التغلب على مقاومة البكتيريا ألا يتناول المريض المضادات الحيوية إلا لضرورة. خلافًا للاعتقاد الشائع، لا تُفيد المضادات الحيوية في علاج نزلات البرد أو العدوى الفيروسية. إذا تناول المريض المضادات الحيوية حال وجود عدوى فيروسية، فإنه يسمح بتطوير البكتيريا المقاومة لها.
حال وصف الطبيب للمريض تناول مضاد حيوي، يجب الالتزام بتعليمات الاستخدام، واستكمال النظام العلاجي كاملًا. يؤدي عدم استكمال النظام العلاجي مع بدء الشعور بالتحسن إلى بقاء البكتيريا التي تطور لاحقًا مقاومة المضادات الحيوية وتتكاثر.
أيضًا يُنصح المريض بتجنب استخدام وصفة مريض آخر، أو استخدام ما تبقى من نظام علاجي سابق.
أخيرًا، تُعد الوقاية أفضل أنواع العلاج. يُنصح بغسل اليدين دائمًا، خصوصًا عند تحضير الطعام، وتجنب الاختلاط بالمرضى. تُعد الأمراض المنقولة جنسيًا من أهم سلالات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، لذا تُعد ممارسة الجنس الآمن من طرق الوقاية المهمة أيضًا.
اقرأ أيضًا:
استخدام المضادات الحيوية المزمن يساهم في التدهور المعرفي
تلوث الهواء مرتبط بزيادة مقاومة المضادات الحيوية عالميًا
ترجمة: رهف وقاف
تدقيق: أكرم محيي الدين
مراجعة: هادية أحمد زكي
المصدر
الكاتب:رهف وقاف
الموقع : www.ibelieveinsci.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2024-02-11 00:06:50
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي