من وستفاليا إلى ترامب: النظام العالمي في رحلة تفكك؟

واليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود، وبعد شهرين فقط من بداية الولاية الثانية لدونالد ترامب، تحذّر كايا كالاس، المسؤولة عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، من أن العالم يشهد “تحولات في النظام الدولي غير مسبوقة منذ عام 1945”. غير أن هذه التحذيرات تضعنا أمام سؤال جوهري: ما هو “النظام العالمي” بالضبط؟ كيف يتشكل، كيف يحافظ عليه، وفي أي ظروف ينهار؟
النظام في عالم بلا حكومة: إعادة تفكير مفهومي في العلاقات الدولية
في اللغة اليومية، تشير كلمة “نظام” إلى ترتيب مستقر وذي معنى من العناصر أو المهام أو العلاقات؛ وهو مفهوم يتجلى داخليًا في الدول من خلال عبارات مثل “مجتمع منظم” أو “حكومة متماسكة”. أما في مجال العلاقات الدولية، فنواجه ظاهرة مختلفة: عالم بلا حكومة مركزية أو سلطة شاملة.
من الناحية النظرية، يوصف العالم الدولي بأنه “فوضوي”؛ لكن “الفوضى” هنا لا تعني الفوضى المطلقة أو الفوضى غير المنضبطة. فالنظام على المستوى الدولي، على خلاف التصور الشائع، هو مفهوم نسبي ومرن. كما أن النظام السياسي في الداخل قد يستمر في إطار نظام مستقر، حتى مع وجود مستويات من العنف غير المقيّد.
في كثير من الدول، يعدّ العنف – سواء كان منظمًا أو غير منظم – جزءًا من واقع الحياة السياسية اليومية. ولكن حين يتجاوز هذا العنف حدًا معينًا وتتحدّى سلطة الدولة المركزية فعليًا، يشار إلى ما يعرف بـ “الدولة الفاشلة”.
الصومال مثال بارز على ذلك؛ بلد يتميز بلغة وعرق متجانسين نسبيًا، لكنه يفتقر إلى بنية حكومية فاعلة. فالدولة القائمة في مقديشو لم تعد تملك نفوذًا يتجاوز حدود العاصمة منذ زمن طويل.
ماكس فيبر
عرّف عالم الاجتماع الألماني البارز ماكس فيبر الدولة الحديثة بأنها المؤسسة التي تحتكر “الاستخدام المشروع للعنف” داخل حدودها الإقليمية. ولكن هذه الكلمة المفتاحية، “الشرعية”، تكتسب معناها ضمن سياق من الأفكار والمعتقدات والمعايير المتغيرة باستمرار. وبهذا المعنى، فإن النظام الذي يوصف بأنه “شرعي” في بلد ما، لا يمكن تقييمه فقط على أساس مستوى العنف أو نوعه، بل يجب تحليله في ضوء القوة والقبول الاجتماعي بالمعايير السائدة.
وعلى المستوى الدولي، يتبع مفهوم “النظام” نفس المنطق. فيمكن فهم النظام العالمي ليس فقط من خلال تحليل كيفية توزيع القوة والموارد بين اللاعبين الرئيسيين، بل أيضًا من خلال تقييم مدى التزامهم بالمعايير والقواعد والمؤسسات التي تنتج الشرعية الدولية. إضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار تكرار وحدة وشدة الصراعات العنيفة كمؤشر لقياس النظام العالمي.
النظام العالمي على حبل رفيع من الشرعية والقوة
على مرّ التاريخ، ارتبط تثبيت النظام وتوازن القوى بين الدول بالحروب التي أعادت رسم الحدود والمعادلات الجيوسياسية. لكن فهمنا لشرعية الحروب قد شهد تحولات عميقة عبر الزمن.
ففي القرن الثامن عشر، حين قرر فريدريك الأكبر، ملك بروسيا، احتلال منطقة سيليزيا من جاره النمساوي، لم يكن بحاجة إلى شرعية دولية، فهاجمها ببساطة واحتلها. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الأسرة الدولية تسعى إلى تقنين السلوك العسكري. فكان تأسيس الأمم المتحدة نقطة تحول في هذا الاتجاه. حيث قصر ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوة المشروعة على حالات الدفاع عن النفس، إلا إذا منح مجلس الأمن تصريحًا صريحًا بالعمل العسكري.
في هذا الإطار، حين أصدر فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، أمرًا بشن هجوم عسكري على أوكرانيا واحتلال أجزاء من أراضيها، سعى إلى إضفاء شرعية على هذه الخطوة بالقول إنه يدافع عن بلاده ضد التهديد المتزايد لتوسع حلف الناتو شرقًا. إلا أن المجتمع الدولي لم يتقبل هذا التبرير إلى حد كبير. فقد أدانت الغالبية الساحقة من أعضاء الأمم المتحدة هذا الهجوم. أما الدول القليلة التي امتنعت عن الإدانة، فهي تحاول استغلال هذه الأزمة لتعزيز مشاريعها في كبح الهيمنة الأمريكية وزيادة نفوذها.
صحيح أن الدول تستطيع أن ترفع دعاوى ضد بعضها البعض أمام المحاكم الدولية، لكن هذه المؤسسات تفتقر إلى أدوات تنفيذ فعالة لقراراتها. وبالمثل، فإن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو الجهة المسؤولة عن حفظ السلم والأمن الدوليين، يملك صلاحية منح الإذن باستخدام القوة، لكن هذه الصلاحية نادرًا ما تستخدم عمليًا. السبب الرئيس لذلك يعود إلى تركيبة المجلس ووجود حق النقض (الفيتو) لدى الأعضاء الدائمين الخمسة: بريطانيا، الصين، فرنسا، روسيا، والولايات المتحدة.
صمّام الأمان
ويعمل حق النقض في هذا النظام مثل صمّام الأمان في نظام كهربائي حساس: أداة لمنع “انفجار النظام”. فالخيار الأخير للقوى الكبرى يكون عادةً “إطفاء الأنوار مؤقتًا”، وليس إشعال نار قد تحرق “بيت النظام العالمي” بأكمله.
لكن النظام العالمي ليس نتاجًا حصريًا للمؤسسات والمعاهدات. فالتطورات التكنولوجية، من خلال إعادة تعريف حدود القوة العسكرية والاقتصادية، يمكن أن تُحدث تغييرات في التوازن القائم. كذلك، التغيرات الداخلية في البُنى السياسية أو الاجتماعية للدول الكبرى – من الحركات الشعبوية إلى الثورات الرقمية – يمكن أن تغير اتجاه السياسات الخارجية وتؤثر على توازن النظام العالمي.
وبجانب هذه العوامل، يمكن للقوى العابرة للدول، مثل الأفكار والمعايير أو الحركات الثورية، أن تنتشر خارج إرادة الدول وتُقوّض شرعية النظام المهيمن.
إمبراطورية في ظل القلق؛ النظام العالمي من منظور الانهيار التدريجي
واحدة من اللحظات التأسيسية الأولى في تشكيل النظام العالمي الحديث تعود إلى عام 1648 ونهاية الحروب الدينية في أوروبا؛ حيث اعترفت معاهدة صلح وستفاليا بمبدأ سيادة الدول كحجر أساس للنظام المعياري الدولي. لكن النظام العالمي لا يتشكل من خلال القواعد والمعايير فقط؛ بل يلعب التوزيع الفعلي للموارد والقوة دورًا حاسمًا في توجيهه.
فحتى قبل الحرب العالمية الأولى، أصبحت الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم؛ تحول جذري أتاح لها التدخل العسكري في المراحل الأخيرة من الحرب، لترجّح كفة الحلفاء. لكن البيئة السياسية الداخلية دفعتها نحو العزلة، ما أحدث فراغًا في القيادة، استغلته القوى التوسعية – خاصة في ثلاثينيات القرن الماضي – لفرض رؤاها على العالم.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تمتلك نصف الناتج الإجمالي العالمي، ما جعلها القوة الاقتصادية الأكثر تفوقًا على وجه الأرض. غير أن تفوقها العسكري توازن مع ظهور الاتحاد السوفيتي، وكانت الأدوات المعيارية للنظام العالمي، مثل الأمم المتحدة، فعالة بحدود. لكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، نشأ ما يعرف بـ “الحقبة أحادية القطب”.
غير أن التورط الأمريكي المكلف في الشرق الأوسط، والتغافل البنيوي عن التحديات الاقتصادية الداخلية – ولا سيما سوء الإدارة الذي بلغ ذروته في أزمة 2008 المالية أضعف تدريجيًا قوة واشنطن ومكانتها. وفي هذا السياق، أعادت قوى دولية أخرى تعريف استراتيجياتها؛ فأمرت روسيا بالهجوم على جورجيا، وابتعدت الصين عن سياسة “الصمت والحذر” التي انتهجها دنغ شياو بينغ، لتتبنى نهجًا أكثر هجومية. وبفضل نموها الاقتصادي، تمكنت الصين من تقليص الفجوة في القوة بينها وبين أمريكا بشكل كبير.
رغم أن قوة الولايات المتحدة قد تراجعت نسبيًا مقارنة بالصين، إلا أن حصتها من الاقتصاد العالمي لا تزال تقارب 25%. وطالما أنها تحافظ على تحالفاتها القوية مع اليابان وأوروبا، فإن هذا التكتل يمثل أكثر من نصف اقتصاد العالم؛ في حين لا يتجاوز إجمالي حصة الصين وروسيا معًا نحو 20%.
السؤال الجوهري هو: هل ستتمكن إدارة ترامب من الحفاظ على هذا المصدر الفريد للقوة المستدامة؟ أم أن العالم، كما تحذّر كايا كالاس، يقف على عتبة منعطف تاريخي؟ لقد كانت أعوام 1945، و1991، و2008 لحظات حاسمة في النظام العالمي. وإذا ما أضاف المؤرخون في المستقبل عام 2025 إلى هذه القائمة، فمن المحتمل أن يكون السبب ليس تحولًا عالميًا لا مفر منه، بل نتيجة مباشرة لسياسات فرضتها الولايات المتحدة على نفسها من الداخل.
المصدر: موقع فرارو
————————— –
المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————–
مصدر الخبر
نشر الخبر اول مرة على موقع :ar.shafaqna.com
بتاريخ:2025-04-05 23:57:00
الكاتب:Shafaqna1
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
JOIN US AND FOLO
Telegram
Whatsapp channel
Nabd
GOOGLE NEWS
tiktok
/a>